للرأسمالية منطقها الداخلي. ربها المال والربح والتراكم. تمر بأزمات. لا تتعلم من التاريخ. تتابع طريقها. تستبدل الأيديولوجيات كما يستبدل المرء أحذيته. أسقطت الليبرالية في بلادها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. سلخت من طبقاتها الفقيرة منافعها وضماناتها الصحية والاجتماعية تدريجياً. أصعدت النيوليبرالية. خصخصت كل شيء تقريباً. يعود دور الدولة الآن، وإن بشكل مغاير.
يتغير نظام العالم من التوجيه بالإقناع (الليبرالية) إلى التوجيه بالأمر. اقتصاد الأمر كان سبيل الدول الرأسمالية في الحروب العالمية. ثقافة الأمر هي ما يخلق وعي الناس اليوم. تسيطر شركات كبرى على مراكز الانترنت والميديا. هي ما يفصل بين الكذب والحقيقة. هي ما يقرر الحقيقة. تُضخ المعلومات في دماغ الإنسان. ينتفخ. يتورم. يعاد تشكيله. يعاد تشكيل المعرفة نفسها. وصفت رواية جورج أورويل «1984»، «الأخ الكبير» ومراقبته لكل الناس في النظام السوفياتي. يتحقق ذلك الآن على مستوى العالم. أنت مراقب أينما كنت على الكرة الأرضية.
كما الجيش يأمر، كذلك الرأسمال، كذلك وسائل التواصل (؟) الاجتماعي. الجيش يتغلب ثم يأمر المغلوبين. الولايات المتحدة تنفق على وسائل الحرب أكثر من ضعف ما ينفقه بقية العالم. حيازة الرأسمال المالي عند أقل من 1 في المئة من الناس أكثر مما يملكه نصف البشرية. الشركات التي تملك المعلومات وتوزعها يبلغ عددها أقل من أصابع يدك. جاء ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وربما رئيساً للعالم (غير رسمي بعد). وزراؤه جنرالات (متقاعدون) ورؤساء شركات كبرى غير متقاعدين. شركات الميديا ادّعت أنها عارضته في الحملة الانتخابية، لكن رؤساءها جاؤوا للاجتماع به أمس، لا ندري من يملك السلطة على من.
فلول الليبرالية تصف الحالة في الولايات المتحدة بالشعبوية. ليس لديها إلا حرف الواو تقاتل به. يضاف حرف الواو إلى ما هو «شعبي» يصير شعبوياً. تتحول الفضيلة إلى رذيلة. مع ذلك لا يضاف شيء إلى معرفتنا بالنظام العالمي الجديد. ما هو جديد فيه هو تعميم المراقبة والضبط والتحكم عن طريق المعلومات. الوعي المراقَب والمضبوط والمتحكَم به يُعاد تشكيله. هو عصر المعلومة التي تطغى على المعرفة. الفردية المطلقة التي تعرِّف الحداثة نفسها بها هي الآن سجينة المعلومة التي تضخ من بضعة مراكز على الأرض. يعرف الجميع من يمتلك هذه المراكز. لا تقل سيطرتها عن الجيوش أو الرأسمال المالي.
يتسطح الخطاب. يقتصر على العلم بالحدث. ما كان منه يتعلق بالأسباب والنتائج أزيل. أنت تعرف الحدث وحسب. تفقد ملكة التحليل والتعليل. اللغة المستخدمة لا تحتاج إلا إلى عدد قليل من الكلمات، عدد قليل من الأوصاف والمفاهيم.
وهناك من يقول إن التسطيح يقود إلى التسخيف. لكن من يملك سلطة ضخ المعلومة يملك سلطة المعرفة. تُحتكر المعرفة كما يُحتكر المال كما تُحتكر القوة العسكرية.
والمواطن الفرد الذي أنتجته هذه الحداثة، بالأحرى هذه التكنولوجيا، يصير مدمناً على المعلومة. هي في جيبه هاتفاً ذكياً، وأمامه على اللوح الإلكتروني. يغرق في سيل المعلومات. يدمن عليها. يخضع لها. يتحول إلى مجرد كتلة من الرغبة بالمزيد. إنسان متلقٍ وحسب، محروم من القدرة على المبادرة. بعد أن أعيد تشكيله يصير جسماً فاقد الحرية. يستخدم مفهوم «الشعبوية» للاستفادة من هذه الحالة. مطالب الشعبويين مرفوضة حتى ولو انتخَبوا وكانوا الأكثرية. بالأحرى يزول الحديث عن المطالب والنقابات في عصر المعلومة. ألم يقل ترامب إن النقابي العريق لم يمثل العمال في المفاوضات على بقاء معمل «كاريار» في انديانا؟ مجرد الوصف بالشعبوية يكفي لتسفيه من يمثّل العمال. ألم ينتخب معظم هؤلاء دونالد ترامب؟ الأرجح عدم تحديد من هم الشعبويون بين مختلف الأفرقاء. يكفي استخدام التعبير للتسفيه.
يقال إنه تمثل في تلك الغرفة التي اجتمع فيها ترامب مع شركات الميديا أكثر من ثلاثة آلاف مليار دولار. ويقال إن التدخل الروسي بنشر المعلومات ساهم في انتخاب ترامب. ويجاب على ذلك بأن الانترنت شبكة يمكن الدخول إليها من أي مكان. بالتالي، لا يمكن السيطرة عليها. هل المطلوب أن لا نعرف من يسيطر على من. وعندما تتفاوض الصين مع غوغل أو ما ياهو، على نوع المعلومات التي يجب تلافيها، أليس معروفاً من يملك سلطة المعلومة؟
نظام مراقبة كوني. السلطة التي وصفها جورج أورويل في رواية «1984» تحققها الليبرالية الآن. هل تنحر ذاتها؟ لم يعد العدو نظاماً آخر، لم يعد نظاماً خارجياً. هو النظام ضد نفسه. تنتحر الليبرالية ولا بحث أو تفتيش عن نظام آخر. كيف يبحث من لا يفكر؟
الحرمان من ملكة التفكير له ما بعده. مع التسابق إلى امتلاك السلاح النووي، لا يمكن إلا الاستنتاج أن «الما بعد» هو نهاية من نوع ما. نعزي أنفسنا باللانهاية. السلاح النووي يهدد مصير البشرية. الانترنت توجه السلاح النووي؟ كبسة زر وينتهي كل شيء.
نقل تشومسكي عن أحد كبار علماء البيولوجيا أن لكل فصيل حي مدة حياة تقارب المئة ألف عام، وأن المدة المخصصة للبشرية قد قاربت على الانتهاء.
عندما يخترق قراصنة الكومبيوتر من بلد ما كومبيوترات أساسية لوزارة الدفاع والخارجية ولجنة أحد الحزبين الرئيسيين في واشنطن، يكون من حقنا أن نعتقد أنهم سوف يصلون يوماً إلى ما هو أخطر بكثير في وزارة الدفاع في البلد المعتدى عليه، والذي تعوّد أن يعتدي على كل البلدان الأخرى.