هي اللحظات التي ترفض على امتداد سنوات حياتي إلا أن تطل من ذاكرتي بين الحين والآخر لتزيح جانبا لحظات أخرى أعيشها وتحل محلها أو تختلط معها. لحظات من الماضي البعيد تطل فتؤرقني وأحيانا تسعدني وكثيرا ما تعيدني إلى أيام غابت لبعض الوقت عن ذاكرتي أو حاولت أن تغيب. كثيرا ما ظننت بما تخلفه من مشاعر أنها تجدد الدماء التي تجري في عروقي وتبث روحا جديدة لإحياء لحظات أخرى من زمانها ولو على حساب زماني وناسي وما استجد من حكاياتي. حاولت معرفة ميكانيزمات ظهورها ومحركات وجودها حية في الذاكرة، وفشلت. بعضها يبدو للغير بسيطا إلى حد التفاهة بالنسبة لي أراها محطات ساهمت في بناء إنسان.
***
من هذه اللحظات أختار نماذج هي بين الأكثر ظهورا والأطول بقاء. أذكر مثلا تلك الليلة من ليالي شهر رمضان. أظن أنني كنت في العاشرة أو تجاوزتها بقليل حين تلاقينا كعادتنا في هذا الشهر الممتع لنلعب كرة القدم في شارع مجلس النواب المضاء دائما والهادئ مرورا. حدث ليلتها أن إحدى القذفات أو الرميات انتهت بالكرة داخل أحد المحلات بعد أن مرت بنافذته الزجاجية الواسعة فدمرتها تدميرا. لم يكن ينفع أو يفيد الهروب فكلنا معروفون في الشارع ولدي صاحب المحل الذي أصر على استدعاء شرطي الحي وبدوره استجاب لغضب التاجر فقرر وبمساعدة رجال آخرين الإمساك بي وبعدد من الأطفال ومشينا جميعا في اتجاه قسم شرطة السيدة في ميدان السيدة زينب. عرفنا بعدها أن آخرين من أهل الحي تطوعوا لإبلاغ أهالينا. أذكر جيدا الألم الذي تسببت فيه القبضة القوية لرجل الشرطة الممسك بيدي والشتائم التي تفوه بها وأكثرها يمت إلى قاموس من المفردات لا عهد لنا به، على الأقل في حينا ومدارسنا المحافظة. أذكر أيضا منظر والدي وهو يهدد الضابط النوبتجي بأنه إن لم يسلمني إليه فإنه سوف يتصل بالوزير باعتباره مدير مكتبه. أذكر أيضا والدي ممسكا يدي بيد لم تتوقف عن الارتعاش على امتداد الطريق إلى بيتنا، توقفنا مرتين أو أكثر ليخرج منديله من جيبه راح ظني إلى أنه أخرجه ليمسح به العرق، وكان ظني خائبا إذ كنا في قلب موسم شتاء غير عادي البرودة. لم أعرف السبب وراء التوقف مرات في الطريق إلا عندما وصلنا البيت وسمعت الجارة تبلغ زوجها الذي اشترك مع رجال العمارة في استقبالنا عن دموع كانت تنهمر من خلف نظارة أبي. غلبني الحرج لوجود أصدقاء الحي وأهاليهم.
***
لحظات أخرى من هذا النوع يتكرر ظهورها بشكل لافت. أذكر كثيرا، أكثر من أي مرحلة سابقة في حياتي، أننا كنا نلعب الكرة فاصطدمت بلاعب آخر وكانت نتيجة الاصطدام القوي أن سقطت فوق ذراعي مرتطما بحافة الرصيف. صرخت من شدة الألم فسمعني من الجيران من سارع بالصعود إلى شقتنا لإبلاغ الأهل. دقائق وكانت أمي إلى جانبي في الترام متوجهين إلى حي الفجالة حيث توجد عيادة المقدس برسوم، أشهر من قام في ذلك الوقت بتجبير العظام. عدنا إلى البيت بذراع “مجبرة”. ما أن رآها أبي وقد أحيطت بدقة وعناية فائقة بألواح الخشب إلا وراح يختفى في غرفته حتى لا يرى أحد دموعه.
***
كنا وأصدقاء، وكلنا في سن المراهقة، نقوم برحلات مشي ورغبة في التعرف على جديد. اخترنا الصعود إلى قمم المقطم والمشي إلى المعادي وفي المرة التالية اخترنا أن نمشي حتى حلوان أملا في أن نعثر على أشجار الغابة المتحجرة. انطلقنا قرب الفجر من نقطة غير بعيدة عن القلعة للصعود وعند ما تصورنا أننا عند سطح الهضبة مشينا جنوبا. تجاوزنا المعادي عند الظهيرة وسعينا بكل ثقة نحو مزيد من الجنوب. حلت ساعة المغرب وما زلنا على مرمى النظر بعيدين عن أي كثافة معمارية تشي بأننا صرنا قرب حلوان. تسرب إلينا القلق عندما بدأنا نجد صعوبة في رؤية ما حولنا. قررنا الاتجاه غربا ونحو أي مكان نهبط معه إلى السهل المنبسط. تخبطت المسيرة ودب الخوف وهيمن القلق وقد حل الظلام ولم تعد كشافاتنا المتواضعة قادرة على التعامل معه. مرت ساعات صعبة خاصة وقد اكتشفنا أن أضواء الكشافات بدأت تخفت وأصوات حيوانات بدأت تعوي. توقفنا عن المشي عندما وصلت إلى سمعنا صفارات قوية ومكبرات صوت تأمرنا بالانبطاح أرضا. فجأة وجدنا أنفسنا أمام جنود مسلحين وسيارة جيش وتعليمات نفذناها. هبطت بنا السيارة إلى الوادي وهناك دخلنا معسكرا للجيش. بعد قليل كنا في مكتب ضابط بدا لي أنه صدق روايتنا. طلب مني الاتصال من هاتفه بوالدي ثم أعطيه السماعة ليتحدث إليه وقد حل الفجر. أشرقت الشمس وسيارة الجيب تنهب بنا الأرض انطلاقا من معسكر للجيش المصري قرب المعصره في اتجاه بيتنا. هناك وعند باب البيت كان أبي في الانتظار محاطا ببعض الجيران.
***
سافرت مرة وعدت مع زوجة وسافرت مرة ثانية وعدت مع زوجة وطفل وسافرت مرة ثالثة وعدت مع زوجة وطفلين ليبدو الوالد لي في كل مرة وقد تقدم به العمر بشكل غير حقيقته. خرجنا إلى الطريق ذات يوم أنا ومعي الوالد وابني وما زال طفلا. كنا في ميدان التحرير نحاول معا عبور طريق فرعي. يد تمسك بيد الطفل والأخرى امتدت لتمسك بيد أبي. توقف الوالد عن المشي. وقف متصلبا وغاضبا ومحتجا، كيف أنسى أنه الوالد، وحقه بل وواجبه أن يمسك هو بيدي ويد ابني ليعبر بنا الطريق، وبالفعل توسطنا وقادنا وسط زحام السيارات نحو الرصيف الآخر. نظرت إلى ناحيته لأرى السعادة على وجهه متجسدة في كل القسمات. هو الوالد هو الراعي هو الحامي لكل نسله في كل حياته.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق