طلال سلمان

لة زمان يا سلاحي

كثيرون لم يصدقوا آذانهم، أمس، وهم يسمعون مضمون المكالمة الهاتفية بين الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الأميركي جورج و. بوش.
فمن زمان لم يسمع المواطن العربي رأيه على لسان قادته، ولم يجد لموقفه صدى أو ظلاً أو أثراً في السياسات المعتمدة، بل لعله كان يسمع في الغالب الأعم ما يسفّه رأيه فيظهره مراهقاً ساذجاً أو مغامراً أحمق، وما يشعره بالمهانة لكونه خارج دائرة القرار الرسمي الذي يصوِّره مستسلماً مستكيناً للقدر الإسرائيلي الأميركي أو الأميركي الإسرائيلي، لا فرق، ومفرِّطاً بالحق والأرض، بالحاضر والمستقبل، طلباً للأمان وكأنه غاية المنى.
من زمان اختفى الاعتراض، ولو خجولاً، على ما تقرره واشنطن.
ومن زمان سحب من التداول احتمال المواجهة مع إسرائيل، وكمقدمة تدل على حسن النية أسقطت عنها حقيقة أنها »العدو«، وباتت في منزلة بين منزلتي »السيد« و»الشريك المفوض« في كل ما يتصل بالمنطقة التي طُمست هويتها العربية: المياه، الاقتصاد، الزراعة، السياحة، الصناعة، والأمن أولاً وأخيراً… بل بات لإسرائيل رأي في الإسلام وفي المسيحية وفي العلاقة بين المؤمنين ومتى يمكن قبولها ومتى يجب التصدي لها بوصفها إرهاباً.
تلك »لغة قديمة« ولعلها »بادت« بعدما هجرها العرب، على المستوى الرسمي، منذ زمن بعيد، وتنكروا لماضيهم معها فأنكروه، وهربوا إلى نقيضها نفاقاً وخضوعاً وتواقيع على الاتفاقات المنفردة طلباً للسلامة.
تلك لغة ذهبت مع جمال عبد الناصر ومع حافظ الأسد، ومع فيصل بن عبد العزيز، ومع حركة التحرر وعدم الانحياز وانطفاء عصر الثورات وإعلان نهاية التاريخ ونشوب صراع الحضارات، لا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي.
أيجرؤ حاكم، بل حتى مواطن، في هذا العصر الأميركي، أن يرفع صوته بالاعتراض بينما الطائرة الإسرائيلية تحتل السماء من فوقه، والقنابل النووية جاهزة في مخازن المفاعل لإبادة العصاة إذا ما قصَّر السلاح التقليدي في تأديبهم وإخضاعهم لمقتضيات الأمن الإسرائيلي وسلامة المصالح الأميركية؟!
ها هي »لغة الشارع« تصعد إلى »القصر« لتُقال منه مباشرة للسيد الأميركي الذي كان »حلفاؤه« و»أصدقاؤه« من الحكام العرب قد أقنعوه بأن »الشارع« قد تمّ تدجينه بالقمع والهمبرغر، بالبطالة والجينز، بالإذلال المفتوح في حياته اليومية كما باسترهان مستقبله في أحد جحيمين: الهجانة أو الجاهلية!
زمان كانت الأمم المتحدة ملاذاً للشعوب المقهورة، وكان أمينها العام الذي يجيء به التوازن الدولي، يتحلى بقدر من النزاهة ومن الفهم الأولي للحق التاريخي الثابت وللادعاء المزوّر للتاريخ والجغرافيا، كما بقدر من الشجاعة الأدبية التي تمكّنه من توصيف الاحتلال وتسميته باسمه الصريح، ومن تحديد الضحية باسمها.
أما اليوم فالأمم المتحدة بشخص أمينها العام، تكاد تتحول إلى دائرة تأديب لمن يجهر بعصيانه الإرادة الأميركية أو يتجرأ فيُستشهد وهو يقاوم الاحتلال الإسرائيلي بحجر أو بمحاولة صد الدبابة بصدره العاري.
وكان المواطن العربي يتمزق ألماً وهو يستمع إلى تصريحات حكامه المدجنين تموّه الوجه القبيح للاحتلال وتحاول تزيين صورة الاستسلام بتسميته سلاماً، وتضفي على التبعية والخضوع المطلق للإرادة الأميركية شبهة التحالف أو الشراكة أو الالتزام بمقتضيات العولمة والولوج إلى العصر.
لقد سمع المواطن العربي الآن صوته، واستعاد لغته.
لقد رفع بشار الأسد صوت الانتفاضة المباركة في فلسطين بعدما كادت تئدها المساومات ومحاولات شراء الرضى الأميركي والإلحاح على طلب العفو من السفاح أرييل شارون.
كذلك أعاد بشار الأسد الاعتبار إلى المقاومة، ولو بالصمود، وأكد الاستعداد لمواجهة أعباء التحرير بالغة ما بلغت، ولو باللحم الحي.
والأهم: أن بشار الأسد قد أعاد إسرائيل إلى حجمها، من خلال استحضاره الشارع العربي، أي أهل الأرض، أهل الحق، ومن خلال كسره حاجز الخنوع والخضوع للإرادة الأميركية وللاحتلال الإسرائيلي.
»والله زمان يا سلاحي«…
تحية لمن أعاد الاعتبار إلى »المواطن« العربي الذي لم يبخل بدمه في أي يوم، والذي تقتله الاستكانة بينما هو قادر وحاضر للصمود والمواجهة والمقاومة لأنه يرى فيها الطريق إلى حياته الحرة والكريمة فوق أرضه.

Exit mobile version