طلال سلمان

لبنـان كنمـوذج لـدويـلات الحـرب الأهليـة العربيـة؟!

اشتُهر عن لبنان أن مجتمعه أقوى بما لا يقاس من دولته.
ولقد دلّت تجارب الحروب الأهلية التي تواصلت ـ بالسلاح ـ لمدة عشرين سنة طويلة، قبل أن تهمد من غير أن تنطفئ نيرانها تماماً، أن النظام الطوائفي هو «الثابت»، مع قليل من التعديلات الشكلية، في حين أن «الدولة» هي «المتــحوّل»: قد تغيب لسنين ثم تستعاد على قاعدة التوازنات الجــديدة بين الطوائف ـ والدول التي ترعاها ـ لتكــون مجرد ناظــم للعلاقات، يقــوم بدور شــرطي المرور، تجنباً لمزيد من المصادمات العبثية.
.. وها إن «الدولة» في حالة غياب، وإن افترض البعض أنه تغييب قسري، أو رأى آخرون أن «الدولة» في حالة «كمون» انتظاراً لمرور عاصفة التحولات التي تجتاح الأرض العربية كلها، مشرقاً ومغرباً.
في أي حال فإن اللبنانيين، الذين اعتادوا غياب أو تغييب الدولة، يعيشون نوعاً من الضياع يتجاوز في العديد من جوانبه ما سبق لهم أن ألفوه وتعايشوا معه خلال دهور الحرب الأهلية.
ذلك أن الانهيار الجديد في دولتهم القديمة يتم في غيبة أي نموذج محتمل لبديلها العتيد.
الأخطر هو انهيار المجتمع بمؤسساته السياسية (أحزاب وتنظيمات عابرة للطوائف والمذاهب) والاجتماعية (اتحادات مهنية، نقابات، جمعيات وصولاً إلى الكشافة!!) وتشققه على قواعد من خارج السياسة (طائفية ومذهبية)…
لا مرجع ولا مرجعية، رسمية، منتخبة أو معيّنة، تستطيع الادعاء أنها تمثل «الجميع». يمكن بعض مرجعيات الأمر الواقع أن تدّعي أن «الجميع» قد سلّموا بها مكرهين، ولكنها أعجز من أن تقرر باسمهم أو بالنيابة عنهم… فالكل خارجها عملياً، يتوزعون عليها فيغتالون وحدتهم وشخصياتهم الاعتبارية، وتفيد من فرقتهم ليتعاظم نفوذها، وهو في جوهره تقسيمي.
والحقيقة أن أحوال لبنان التي تتبدى كوميدية في حين انها، في أصلها، مأساوية تعكس بعض الاضطراب الشامل الذي يعيشه الوطن العربي مشرقاً ومغرباً، في هذه اللحظة الفارقة.
فارتجاج الدولة، وعجزها عن السيطرة، يكاد يكون حالة عامة في المنطقة.
أليست «الدولة» في لبنان انعكاساً لميزان القوى في المنطقـة من حولها: إن رعاها «الأقوياء» ازدهرت، وإن تخــلوا عنها أو اختلفوا عليها تضاءل وجودها حــتى بات «رمزياً»، في انتظار إعادة صياغة التوازن بين «الرعاة».
وحال الصراع بين «الأخوة ـ الأعداء» من حولنا قد تفسر بعض الاضطراب العام الذي يعيشه اللبنانيون في «غيبة» دولتهم بمختلف مؤسساتها السياسية والأمنية والحزبية والنقابية والاجتماعية…
…علينا الاعتراف بأن الأحزاب ذات التاريخ النضالي قد اندثرت (ومعها النقابات والاتحادات العمالية) لحساب الكتل السياسية ذات الطابع الطائفي والمذهبي، فــصار أي خلاف أو اختلاف بينها يهزّ الدولة بمؤسساتها جميعاً، وينذر «الشعب» بخطر تفجّر الحرب الأهلية من جديد…
حتى إشعار آخر تتبدى «الثورات» وكأنها ضد صورة «الدولة» كما هي قائمة… أما في لبنان فإن بديل الدولة، كما دلّت تجاربه الغنية، هو الحرب الأهلية.
وهكذا صار كل اللبنانيين «أسرى»: أهل عكار أسرى، وطرابلس رهينة، أهل الجنوب أسرى لأن صيدا رهينة، أهل البقاع بغربه وشرقه أسرى، لأن «الحواضر» فيها رهائن… و«الجبل» جبال، لكل منها من يسترهن أهل جبله، وبيروت رهينة الجميع! والطوائف والمذاهب في ازدهار لأنها حققت انتصاراً جديداً على «الدولة» الهائمة على وجهها الآن لا تعرف لها مرجعاً أكيداً، لا في المحيط القريب، ولا في الخارج المشغول عنها بما هو أهم وأخطر.
… مع ذلك فالنظام بخير، ثابت لا يتغير، وإن تم شيء من التعديل في «تطبيقاته» بما لا يمس جوهره «الدولي»: أوليست الطوائف الآن قناعاً للدول، كما كانت في الماضي، قريبه والبعيد؟!
أوليست ميزة لبنان أن نظامه «فريد في بابه»، وأنه أقوى من الأنظمة المحيطة جميعاً، جمهورية وملكية، مدنية وعسكرية، حزبية وجبهوية؟!
أوليس لبنان البلد الوحيد الذي يمكن أن يعيش بلا دولة؟
أوليس لبنان «دويلات الطوائف» البلا شعب؟!
على أن الخوف، اليوم، أن يصير لبنان النموذج الذي قد يعتمد في إعادة صياغة «الدول» من حوله، قريبها والبعيد… وتلك هي كارثة الكوارث.

نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 30 تموز 2012

Exit mobile version