طلال سلمان

لبنان وحوار اقوياء بوطنيتهم

لا يكفي »الخوف« قاعدة للائتلاف السياسي بين قوى مختلفة التوجهات، متناقضة المصالح، متباينة في منابعها الفكرية…
وفي ما خص الحكومة القائمة بالأمر يمكن القول، بأمانة، ان »الخوف« على الكيان، على النظام، على وحدة البلاد، كان »القابلة القانونية« لولادتها القيصرية.
كان اللبنانيون جميعاً في حالة من افتقاد الأمان، يعيشون قلقاً بغير حدود، بعد الجريمة الشنيعة التي اودت بالرئيس الشهيد رفيق الحريري وصحبه ظهيرة الرابع عشر من شباط الماضي.
وكانت تداعيات الجريمة من الخطورة بحيث دفعت بأطراف كثيرة إلى إعادة النظر في الكثير من الثوابت أولها العلاقة مع سوريا، التي نقلتها شبهة اتهام »النظام الأمني اللبناني السوري المشترك« من موقع »الراعي« والضامن للسلم الأهلي و»ولي الأمر الشرعي« للحكم في بيروت، إلى موقع »الخصم«… هذا إذا ما اغفلنا النزعات المتطرفة، التي لها أسباب لا صلة لها بالجريمة، التي وصلت حد تصنيفها »العدو الوحيد لسيادة لبنان واستقلاله«.
كذلك فإن تداعيات الجريمة، على المستوى السياسي، قد اسقطت الكثير من المحظورات، وفتحت الباب وسيعاً أمام »التدخل الدولي« الذي كان قد وجد المدخل في قرار تمديد الولاية لرئيس الجمهورية، خلافاً لرأي الأكثرية الساحقة من اللبنانيين…
بدءاً من ظهيرة ذلك الإثنين الأسود، في الرابع عشر من شباط، صارت »الدول« مرجعاً مقبولاً، بل ان بينها من تقدم ليسبغ »حمايته« على لبنان، مستفيداً من تجدد نغمة كانت قد باتت مهجورة تطالب بنوع من الوصاية الأميركية الفرنسية على لبنان، لحمايته من النظام السوري بداية، ثم من »الميليشيات« فيه، أي المقاومة ممثلة ب»حزب الله« مستفيدة من نصوص القرار الدولي 1559، ومن اغراض القوى الدولية التي أصدرته بهذه الصياغة (وللتاريخ: فقد كان الشهيد رفيق الحريري من أشد المعترضين عليها).
تكرس الخلاف، إذن، بين القوى السياسية، انطلاقاً من مواقفها المتباينة من ذلك القرار، وحكم سلوكها في الفترة الفاصلة عن موعد الانتخابات النيابية، التي أجريت بالأمر، وفق قانون كان معظم هذه القوى يعتبره جائراً ومنتجاً لمجلس طوائفي.
لم تكن »المهلة« أو »المناخات السائدة« تسمح بأكثر من تحالفات انتخابية بين مختلفين، وحتى بين مختصمين، قاعدتها الفعلية طوائفية ومذهبية، مما انتج مجلساً يحمل تشوهات التحالف الاضطراري بين مختلفين حول الكثير من القضايا الأساسية.
ذلك ان التحالف الانتخابي، في لبنان الطوائفي، لا ينتج حتى في الظروف الطبيعية »جبهة وطنية«، تتقدم إلى الحكم ببرنامجها القاطع في وضوح المشترك بين القوى المنضوية تحت لوائه… وبالتالي فإن التحالف الانتخابي لم ينتج حكومة ائتلافية على قاعدة برنامج مشترك توصل إليه الأطراف المعنيون عبر حوار صريح ومفتوح يتناول كل المسائل الخلافية تمهيداً لاستبعاد ما يفرق لتوكيد الاتفاق على ما يجمع.
وبرغم ان مناقشات صريحة بين ما يسمى تجاوزاً »التحالف الرباعي« قد سبقت تشكيل الحكومة الحالية وأدت إلى تفاهمات محددة حول عناوين المسائل المطروحة، في مرحلة اعتبرت انتقالية، فإن تلك التفاهمات لا يمكن اعتبارها برنامجاً للحكم في هذه اللحظة الدقيقة التي يعيشها لبنان الخائف على ما يتجاوز أمنه إلى مصيره، وسط جو عربي عاصف تخلخل رياحه ثوابت الكيانات السياسية على امتداد المشرق العربي (العراق، مثلاً).
أبسط دليل ان بعض قوى الائتلاف الحكومي قد وافق بحماسة مريبة على القرار 1559 بينما سائر الاطراف تتقدمهم كتلة الرئيس الحريري كانت تجهر برفضه، وكان وليد جنبلاط في هذا الموقف سباقاً مؤكداً تحالفه الثابت مع »حزب الله« الذي نظر إلى القرار بريبة بل هو اعتبره اعلاناً بالحرب على دوره المقاوم وحقه في ان يكون شريكاً في الحكم من موقع وزنه السياسي المؤثر ونفوذه الذي لا يدانيه نفوذ أية قوة سياسية في البلاد.
إن الحكومة القائمة تمثل تلاقياً بين مختلفين، لن تفيد المشاركة في السلطة في توحيد مواقفهم المتعارضة، وإن كان هذا التلاقي ضروريا في هذه المرحلة الانتقالية للعبور من حال الخوف على المصير الى حال من الهدوء والاطمئنان النفسي وكشف الحقيقة حول جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مما يمهد لاستعادة التوازن الوطني والتحرر من المحاولات الدؤوبة التي تبذلها »الدول« لاسترهان لبنان، وسحبه بعيداً عن موقعه الطبيعي وعن هويته الاصيلة.
وإذا كانت اخطاء المرحلة السورية، وهي كثيرة وخطيرة، قد سمحت للدول بأن تمد اياديها الى احشاء الداخل اللبناني، فإن اولى مهمات الحكم الائتلافي لو انه قام على قاعدة سياسية صلبة ان يضع حداً لهذا التدخل، من دون ان يعني ذلك العودة إلى »الوصاية السورية«… ففي اللبنانيين من المناعة الوطنية ما جعلهم يعترضون على اخطاء الشقيق، وبالتالي فهم لن يقبلوا حماية الاجنبي، او استغلال الاجنبي للحظة ضعفهم تحت وطأة صدمة اغتيال الحريري، لتبرير استرهانهم واستخدامهم لأغراضه التي لا يمكن قبولها لدوافع بحت وطنية.
ولا يحتاج اللبنانيون إلى ادلة جديدة على ان التدخل الاجنبي لا يحمي لهم وطناً ولا هو يساعدهم على بنائه، مع ذلك تكفي نظرة إلى ما يجري في الأرض العربية من حولهم، مع وقفة مطولة امام مأساة العراق، لكي يتأكدوا مما لا يحتاج إلى تأكيد من ان التدخل الاجنبي هو اقصر الطرق إلى جهنم الفتنة الطائفية والحرب الاهلية.
وهي شجاعة من سعد الحريري ان يتحدث بصراحة قاطعة عن وعيه لما يدبر ضد لبنان واللبنانيين، ممثلا بمحاولة اثارة الفتنة بين السُنة والشيعة فيه، وان يتعهد بضرب هذه المحاولات الخبيثة والحثيثة والتي تحاول استثمار التباين في الموقف من المحكمة الدولية إلى سبب لتفجير الوضع، وليس لفرط الحكومة فحسب.
إن اللقاء المباشر، والمصارحة الشفافة بالهموم والمخاوف، التي تتناول الحاضر والمستقبل، وتلامس مسائل الاهتمام المشترك، كل ذلك يوفر القاعدة الصلبة لتحالف سياسي يمتد من ابسط الشؤون إلى اعقدها، سواء اتصلت بالوضع الداخلي وتداعياته المحتملة او بدور »الدول« التي تعطي لنفسها في ظل الاختلاف حق التدخل في الشؤون كافة.
ان ما هو مطلوب الانتقال من تفاهمات الخائفين الى حوار الأقوياء بمواقفهم المدعمة للوحدة الوطنية، للاستقلال الفعلي (عن الاجنبي بداية) والذي يعجل في اقامة الجبهة الوطنية العتيدة المؤهلة لتولي المسؤولية عن الوضع في لبنان في هذه اللحظة من تاريخه الحديث.
أما التخاطب عن بعد، والتصادم بالمخاوف، وإضفاء طابع مذهبي على كل تعارض في المواقف السياسية، لا سيما من مخاطر التدخل الدولي، فإنه لن يساعد على بناء مثل تلك الجبهة، بل ينسف احتمال قيامها، وبالتالي فإنه يقربنا من لحظة الخطر.

Exit mobile version