طلال سلمان

لبنان ليس ثوباً ننزعه ولا حذاء نلبسه

كتب نصري الصايغ:

هذه رسالة إلى من يهمه الأمر:

الغضب ليس كافياً. الصراخ لم يعد مجدياً. دفعونا إلى الهاوية وهم مقيمون في ذروة السلطة. عندهم، كأن شيئاً لم يكن. غائبون عن كل شيء، ولا يهتمون الا ببقائهم. هم هم. طغمة من الطغاة. رصيدهم من الاتباع، يحقنهم بشجاعة الانتهاز. لا يعوَّل على اداء جديد. يريدون ما كان معهم ولن يتخلوا عن قبضتهم. الطائفية تحميهم من حراك شجاع.

البلد يتداعى على أهله. لا بصيص تفاؤل. ودائع الناس في مصارفهم، وهم فيها شركاء، شراكة العصابات المافيات، هذه الودائع تنقرض. زيارات الذل لحفنة من الدولارات عادة يومية. اللبنانيون، باستثناء السلطة واركانها وزبانيتها، احياء يرزقون من أموال اللبنانيين وعرقهم وتعبهم وعمرهم وعملهم. رصيد اهل السلطة لم يُمس ولن. توأمة تامة بين المصارف ومغارة علي بابا، في مصرف لبنان، وقادة ميليشيا السياسة، ذات السعير الطائفي، من قمة الهرم السياسي ، إلى أسفل قواعده المنتشرة في مناطق نفوذهم.

لم يهزموا بعد. هم الباقون ابداً. أكانت الحكومة ساقطة او فاشلة أو منتحرة. هم فوق الحكومات. اكرر. هم فوق الحكومات والمجالس والادارات. يتصرفون وكأن لبنان من ممتلكاتهم الخاصة. انه صفقة عقارية سياسية ناجحة. ها هم، بعد تسعين يوماً من الانتفاضة، يتحدون جماهيرها، ويراهنون على تعبها ودورانها من … إلى، من دون تحقيق، الا النزر اليسير.

مباركة هذه الانتفاضة، إذا تقدمت، خطوة خطوة، قبضة قبضة، في تحقيق مطالب الناس، وكم هي كثيرة ومقدسة. انما، كل هذا ليس كافيا بعد. لم نخشَ أن تنقلب معادلة الخطوات: فبدل خطوتين إلى الامام وخطوة إلى الوراء، خطوة إلى الامام وخطوتان وأكثر إلى الوراء.

وعليه، كيف نستعيد الساحات. كل الساحات؟ متى تصبح ملك الناس، برغم المنع الأمني والقمع الطائفي؟ يلزم أن ننكأ الجراح المكتومة. أن نتجرأ على قراءة الوجع اللبناني وجلجلة الافقار. كيف لا يخرج جائع يشهر سيفه؟ غدا، لم يعد غداً. غدا هو الخسارة الموجعة. لماذا لا يخرج الطلاب الذين سترميهم الازمة في الشارع. الأقساط ليست متوفرة. المدارس حائرة بين وقف الارباح وتجنب الخسارة. المشافي مصابة بمرض الندرة الدوائية. الشركات اقفلت ابوابها. صمتت المعامل النادرة في مراكز العمل. لا تحلموا بكهرباء. توقعوا كوابيس العتمة. القذارة البيئية ستزكم الانوف وتعتل الصدور. الشفاء سيمتنع لندرة الدواء. الليرة تبخرت. خسرت الدعم. لا دعم متوفراً الا لأصحاب السلطة وشركائها. النهب لم ولن يتوقف. الاتصالات مشهد ولا أوقح، وعلى عين اللبنانيين. شكراً لمن ما زال يصارع لمنع الصفقة المشبوهة. لا تحلموا بالبحر. لا بحر في بيروت ولا في أي شاطئ. لبنان بلد محتل من رأسه حتى بدايات انكسار الموج على شواطئه. ولن اضيف أكثر. فمن يعاني يعرف، ولا تستطيع نبرة الكلمات والعبارات أن تكون أبلغ من الجوع والتوسل والتسول (لا سمح الله) و… الموت قهراً أو انتحاراً.

لم يكن لبنان هذا، ممكن الحضور او التخيل. كان لبنان معتلاً، ولم يكن مرة معافى. واسباب علله وامراضه، هم هم. أي الذين تحكموا بصلافة وجرأة على الفساد العلني، من دون أن يخافوا مساءلة او محاسبة. لذلك، لا تحلموا بقضاء اثبت انه مبني على اساسات من فساد السلطة السياسية الحصرية.

اتساءل، كيف لا يثور شعب هكذا حكامه؟ كيف لا يخاف. ليصبح مخيفاً؟ ولا مرة وصل لبنان إلى الهاوية والافلاس السريع. علماً، أن “كلن”، يعرفون كل شيء يخصهم، ولا يتعرفون على اشياء كثيرة تخصنا. لذا، القول المأثور: ليس هناك جريمة من دون مرتكب. هذه سلطات مرتكبة، واسماؤها متداولة. لكنها محروسة من جلاوزة الطوائف المسعورة.

الساحات، يلزم أن تتحوَّل إلى سلطة مانعة. إذا كانت لم تجد بعد طريقها إلى ابعد من التنسيق، فان خطر المراوحة واستبدال الامل باليأس، واستبعاد القبضة القوية، الجريئة، المؤلمة، المؤثرة، المخيفة، سيجعل السلطة تنام على حرير ناعم، لو كان لبنان يراود ابواب الجحيم.

انحراف البعض إلى تطييف الحراك، جريمة أبشع من جرائم السلطة.

الحراك ـ الانتفاضة، بحاجة إلى من يصونها ويحصنها، اولا بالحضور والالتزام والوضوح. التنسيق استنفذ مرحلته. المطلوب الانتقال إلى ابتداع بنية، تحافظ على تنوع المكونات، وتوحد في ما بينهم. الحل متوفر، إذا كان كل مكوَّن، يدرك أن الفوز في المعركة الراهنة، هي رهن بموازين القوى. الانتفاضة ستكون اقوى، إذا قدمت بناء القوة الاتية، على الخلافات الكثيرة، وإذا حددت الأهداف بواقعية تحسب حساب القوة والوحدة.

كلمة أخيرة: الانتفاضة روح لبنان الجديد. كانت بدايتها معجزة غير مسبوقة. يلزم أن تصل إلى تحقيق غاياتها، بكثير من الحكمة والفطنة والتنظيم. وامامها اليوم، مهمة الوضوح. ومهمة مخاطبة الذين انكفأوا عن التظاهرات، والذين ما زالوا ممترسين في مقاعدهم، برغم ما يعانون من مذلة وتعب.

علينا أن نصمد لأن غير العقل البناء لا يستطيع الصمود امام هذا الخراب اللبناني المخيف.

هل يحق لنا أن نخاف؟ نحن بشر مهما بلغت نسبة الشجاعة فينا.

نخاف أن يتحقق الأبشع. لن نبشر بالأبشع ابداً. لقد عرفه جدودنا منذ قرن. نقترض من ذاك الماضي مشهداً مماثلاً حدث في بلاد أخرى:

“لقد سمعت ابي يتحدث قائلاً بأنه في تلك السنوات، عندما بلغ سعر الدقيق رقماً خيالياً، لاحظت أن العمال ينسحبون إلى جدول حيث كانوا يتجرعون الماء بدل أن يأكلوا، وكان همهم الأوحد، أن يستر كل واحد بؤسه عن الآخر. والحق، انه لم يسبق ابداً أن بدت الحياة كأنها معدومة من كل معنى، او منحطة خسيسة على ذاك الشكل”.

وعليه، يجب أن لا تموت الانتفاضة. على الشعلة أن تبقى مشتعلة. الشباب مدعوون وحدهم للعيش في المستقبل. مستقبلهم هم. لأن الشيوخ لا يستطيعون العيش الا في مرارة الماضي. إن معظم الناس اليوم مرغمون على العيش في الحاضر، والحاضر على أهبة الخراب والإفلاس.

اليأس ممنوع. كلفة التخلي كبيرة. أكبر بكثير من معاناة مواجهة تنين السلطة، الشلل، مرض الشعوب الخاسرة. ثم، لا ننسَ، أن هذا البلد كله، لنا، ولأولادنا واحفادنا من بعدنا. فلنقل معاً، إننا هنا إلى ألأبد. الوطن ليس ثوباً ننزعه، ولا حذاء نلبسه.

Exit mobile version