في العاشر والحادي عشر من آب 1993، خص الرئيس السوري حافظ الاسد رئيس تحرير »السفير« طلال سلمان بلقاء استثنائي في مدته، مساء ثم في صباح اليوم التالي.
نعيد هنا نشر افتتاحية »السفير«، بعد اللقاء المطول، مقتطفين منها موقع لبنان في عقل حافظ الاسد ونظرته الى نظامه واهل نظامه، بعدما بات هو سيد هذا النظام:
لا يغيب لبنان عن مجلس حافظ الأسد حتى لو لم يكن »الضيف« من اهل الحكم في بيروت، كما بالأمس، او لم يكن لبنان هو الموضوع الاصلي للحديث.
فلبنان يكاد يكون مقيما دائما في صالة الاستقبال الملحقة بمكتب الرئيس الاسد والتي باتت مميزة في العالم اجمع بصورها »الثابتة« لرياشها البسيطة وسجادتها ذات المربعات واللوحة اليتيمة عن صلاح الدين في حطين في الصدارة الى يمين الداخل، وفي مواجهة الرئيس تقريبا وهو يلتفت محدثا او مستمعا الى ضيفه الجالس الى يساره.
بل ان تلك الصالة تحتفظ بأنفاس الاغلبية العظمى من القيادات السياسية والعسكرية، الرسمية والحزبية والروحية التي رفعتها الظروف الى خشبة المسرح السياسي في لبنان على امتداد عقدين من السنين او يزيد قليلا.
لقد تناوبوا على الجلوس في هذا المقعد متوجهين اليه بطلب العون او بالتشكي، مناشدين او معتذرين عن خطأ متعمد او عن قصور في الفهم او عن مبالغة في الاجتهاد، او لا سيما عن تجاوز للمدى في توهم الحصول على دعم »الغريب« او »محالفة العدو«.
من رؤساء الجمهورية أربعة هم الراحلان سليمان فرنجية والياس سركيس ثم »بطل المباغتات« امين الجميل، وصولا الى الرئيس الهراوي الذي ما يكاد يخرج من لدى الرئيس الاسد حتى يتصل لطلب موعد جديد حرصا على »العلاقة المميزة« على المستوى الشخصي قبل الرسمي.
اما رؤساء الحكومة، وكذلك رؤساء المجلس النيابي، فجميعهم قد طلب المقابلة او طلب إليها، يستوي في ذلك الآتي من البعيد او الذاهب الى البعيد، القوي بذاته او المستقوي بعلاقاته العربية او الخارجية، المتودد لنيل الرضا او الراغب في تأسيس صداقة او المندفع الى التحالف »طالما تتعذر الوحدة«.
على الصعيد الحزبي تطول القائمة بحيث يسهل تحديد من استثنته مواقفه منها، لا فرق بين يساري ويميني، بين خريج مدرسة الانعزال او المنتسب الى التيار القومي، فباب الحوار مفتوح للجميع، وفي السياسة لا عداوات دائمة ولا صداقات دائمة والمصالح الحيوية لسوريا ولبنان هي اساس الحساب في ضوء الظروف ومقتضياتها.
ولان الحرب الاهلية قد حولت لبنان الى ازمة دائمة ومتفجرة، خصوصا وان المقاومة الفلسطينية كانت تتخذ من ارضه ولسنوات طويلة، القاعدة والمنطلق للعمل الفدائي كما للحركة السياسية، فقد جاءت »الدول« جميعا الى حافظ الاسد لتناقش معه فتتفق احيانا وتختلف احيانا اخرى ولكنه حتى في الاختلاف تجد نفسها مضطرة للعودة اليه مسلمة بدوره الحاسم وبكلمته الاخيرة في موضوع البلد الصغير الذي حوله الصراع المتعدد الاطوار والوجوه الى »ملخص« لازمات المنطقة ومسرح للمواجهات الدولية الكبرى.
لكم »تعرف« هذه الصالة التي تعكس في خلوها من اي اثر للبهرجة والفخامة طبيعة سيدها الذي يذهب باهتمامه الى المضمون ولا يتوقف كثيرا عند الشكل.
لقد شهدت تبدل بعض الناس وانقلاباتهم: دخلوها متجهمين، مرات، ثم عادوا فدخلوها مبتهجين، نفثوا الغضب في بعض الحالات واحتدم نقاشهم مع الرجل المستفز بهدوئه، وزفروا الشكوى الموجعة في حالات اخرى،
ولكم جاءها البعض مستغفرا وقبع يتلو فعل الندامة، ولكم غادرها بعض »الكبار« ساخطين والشرر يتطاير من عيونهم مستغربين ان يتحداهم هذا الرجل الذي لا يؤخذ بالتهديد او الوعيد، كما لا يؤخذ بإغراءات المساعدة المجزية لبلاده المصنفة فقيرة.
* * *
لبنان، اذن، بند ثابت في السياسة السورية، داخليا وعربيا وخارجيا، وصل في تأثيره الى رغيف المواطن السوري، كما شكل النجاح في معالجة معضلته مصدرا للاعتزاز بحكمة القيادة ومنطلقا لاستعادة الثقة بالنفس بغير تبجح.
لقد انتهى لبنان »كعقدة« للمسؤول السوري كما للمواطن السوري.
ونجحت قيادة حافظ الاسد في حسم المسألة التاريخية المعقدة، اذ كان لبنان بنظامه »القديم« المنفصل الى حد العداء، المختلف الى حد التناقض، »المتوهج« بأساطير غناه (على فقر ارضه)، »قضية وطنية سورية«.
ذلك ان »الوطنية السورية« لم تسلم باستقلال لبنان إلا كارهة، خصوصا وان اهل الاستقلال اللبناني اندفعوا بعيدا في اتجاه الغرب حتى توهموا وأوهموا مواطنيهم انهم قد صاروا منه… وفي هذا السياق يمكن استذكار العقوبات التأديبية التي اتخذها بعض من تعاقب على دست الحكم في دمشق ابتداء بالقطيعة الاقتصادية في اوائل الخمسينات، الى التحرشات ذات الطابع العسكري في مطلع الستينات، الى التخوف من لبنان وتحوله من مطلب الى مشكلة ثم الى ازمة داخلية مفتوحة في اواخر الستينات وعشية »الحركة التصحيحية« التي قادها الرئيس الاسد في اواخر العام 1970.
اليوم وفي مجلس حافظ الاسد اختفى القلق من لبنان كمصدر او حتى كمعبر للخطر على سوريا ونظامها، كما ان القلق على لبنان »بنظامه الجديد« يكاد يختفي، وان بقيت ملاحظات كثيرة على القيمين على »الجمهورية الثانية«، كما تسمى في بيروت، او »لبنان ما بعد الطائف« كما تصير التسمية في دمشق.
فلا سوريا القديمة المعقدة من لبنان وعلاقاته الدولية المفتوحة هي سوريا حافظ الأسد، ولا لبنان الحامل بصمات حافظ الأسد على نظامه الجديد هو لبنان النظام القديم.
فوزير الخارجية الاميركية وارن كريستوفر يضيف لبنان الى برنامج جولته في المنطقة بطلب من دمشق ويأتي منها إليه برا، ثم يعود اليها وفيها ومع قيادتها يقول ما يتصل بلبنان وما يعنيه.
ومثل كريستوفر يتصرف سائر الوزراء الكبار وموفدي الدول، الاجنبية والعربية، فلقد أدرك الجميع ان من يأتي بيروت من غير بوابة دمشق لا يصل!
* * *
حادة هي ذاكرة حافظ الاسد، وهائلة الاتساع والغنى: كل من جاء فانطوى في هذا المقعد الى يساره »حاضر« متى فرض الحديث استرجاعه، ولو من باب الاستشهاد بموقف له او بقول يكشف دخيلة نفسه.
ولانه دارس جيد للتاريخ ومؤمن بمنطقه فمن الصعب »إقناعه« بما لا يتسق مع منطق التاريخ خصوصا متى تعزز بالقوة غير المحدودة للجغرافيا.
» انهم يكررون التجارب ذاتها، لأنهم يتساوون في جهلهم بالتاريخ..
»ولقد أبلغت احد اوائل الموفدين الاميركيين، رامسفيلد، وقد جاءني مباشرة بعد أزمتي الصحية، وبعد قطيعة أعقبت جو الحرب الذي طبع علاقاتنا بالاميركيين نتيجة إصرارهم على فرض اتفاق 17 أيار على لبنان وعبره علينا، انهم يتصرفون تماما كالفرنسيين من قبلهم، وكالاتراك من قبل الفرنسيين، وانهم يرتكبون الاخطاء القاتلة ذاتها… فكل المستعمرين سواء، وهم غالبا ما يفترضون ان قوتهم العسكرية وحدها تكفي لتبديل ثوابت التاريخ والجغرافيا.
»وبرغم انني لم اتفق مع ذلك الموفد في حرف واحد فقد احترمت فيه نزاهته في طرح وجهة نظر إدارته. لم يجاملني، ولم يظهر لي انه اقتنع، بل ناقشني وجادلني طيلة الوقت ولكنه احترم بالمقابل رأيي ورؤيتي.
»قلت له اننا قد قاتلنا الامبراطورية العثمانية، وقد كانت دولة عظمى تظلل أعلامها انحاء شاسعة من العالم. واننا قاتلناها وهي ترفع راية الاسلام، استخلاصا لحقوقنا في ارضنا ولكرامتنا القومية،
»وقلت له اننا على تديننا لم نتردد في مواجهة عسكرها لان الدين نفسه لا ينفع في تمويه حقيقة الاستعمار.
»وقلت له ايضا اننا حين قاتلنا فرنسا كمستعمر، كنا ندرك انه لا امل لنا في ان نلحق بها، وهي الدولة العظمى، هزيمة عسكرية… لكن ثمة مسائل جوهرية لا تحسمها القوة العسكرية بالغة ما بلغت من الكفاءة والقدرات.
»وقلت له اخيرا اننا لم نكن نتوهم مطلقا، حين واجهنا الوجود العسكري الاميركي، ومن ثم الاطلسي في لبنان، اننا اقوى منهم عسكريا، ولكننا كنا ندرك ايضا اننا اقوى منهم بأرضنا وبتاريخنا، فلبنان متصل بنا اتصالا عضويا لا فكاك منه يتجاوز بعمق تأثيره »الحدود الدولية« وواقع الانفصال السياسي الى دولتين…
وأذكر أنني قلت لبعض الموفدين الاميركيين، ممن جاءني خلال السعي لفرض اتفاق 17 أيار، ولوح بإمكان استخدام البارجة نيوجرسي، والطائرات الحربية الحديثة:
لقد سمعت الكثير عن هذه البارجة ومدافعها الاسطورية، قيل لي ان عرض فوهة المدفع يصل الى ألف ملم وان زنة القذيفة الواحدة من قذائفها تصل الى الف كلغ.. واننا متشوقون لان نعرف فعل هذه القذائف المدهشة!! ففي علمنا ان القذيفة ومهما كانت زنتها لا بد ستسقط على الارض، وانها تحدث في الارض حفرة تختلف بعمقها بحسب قوة القذيفة.. لكنها لا تنسف وجود الارض ولا تزلزلها، ولا يمكن ان تفصل لبنان عن سوريا، فالارض هي الباقية، ونحن باقون فوقها، اما الآتي من البعيد فمآله ان يعود من حيث اتى، ولا يبقى في الارض إلا أهلها..
* * *
غامت صورة لبنان القديم في ذاكرة حافظ الاسد، وإن بقيت تختزنها للمقارنة وللاستشهاد بعورات نظامه ومباذل اهله حين تدعو الضرورة،
وقد لا يكون »لبنان ما بعد الطائف« تماما على الصورة التي ارادها او عمل على استيلادها حافظ الاسد، خصوصا متى نظر اليها عبر رموز »نظامه الجديد« بمباذلهم هم ايضا التي لا تقل عن مباذل اسلافهم، ولكنه واثق من القدرة على تطويع هذا النظام وتقويم ما اعوج من سلوك اهله.
لقد استوطن النظام اللبناني، اخيرا، هذه الصالة البسيطة الاثاث الملحقة بمكتب حافظ الاسد في دمشق، وبات بإمكانه ان يكيف استخداماته، وان يعطي من نعمه، او يحرم، من يكابر فيرفض ويدفعه جهله بالتحولات الى »التمرد« والتصرف بمنطق النظام القديم الذي مات وشبع موتا.
وفي ذهن حافظ الأسد تصور واضح للبنان ما بعد الطائف ووظيفته ودوره داخليا وعربيا ودوليا،
ولقد عارك بضراوة واصطدم مع العديد من القوى حتى كيّف هذا النظام وقرّبه الى اقصى حد ممكن من تصوره الذي تمتزج فيه طموحات الوطنية السورية القديمة مع الفهم الموضوعي لطبيعة المرحلة الراهنة، مع الوعي بالشروط القاسية للطور الجديد من اطوار الصراع العربي الاسرائيلي في ظل الاوضاع العربية البائسة والسائد فيها منطق التردي والتنازل والانحراف بما يشكل خطرا على جوهر القضية.
ضمن هذا التصور ثمة مواقف محددة تماما من الطوائف والطائفية، من الاقطاع السياسي القديم ومنطق التبعية المطلقة للغرب، من قيادات جيل الحرب وموقعها على خريطة الحياة السياسية، من التقدم الاجتماعي والتخلف كمؤسسة يسهل توظيفها لاستيلاد انماط من »الاصولية« المدمرة تحت ستار الدين والدين منها براء.
وضمن هذا التصور فإن الطائفية تغدو معطلا للديموقراطية بقدر ما هي تضرب العدالة الاجتماعية وتعطلها حتى في اوساط المنتمين الى الطائفة المعنية والمدفوعين الى القتال ضد مطامحهم ومصالحهم المباشرة.
وضمن هذا التصور ثمة رصد دقيق للمحاولات الاسرائيلية المكررة لاختراق النسيج الاجتماعي في لبنان، مع استعادة لتجربة المصريين مع معاهدة الصلح المنفرد التي قهر بها السادات بلاده، وهو رصد ينتهي بحديث مستفيض عن ضرورة تحصين البلاد والناس لمواجهة احتمالات السلام الذي قد تجيء به المفاوضات..