طلال سلمان

لبنان في مجلس حافظ الأسد 2 تجديد الحياة السياسية: لماذا وكيف وبمن؟!

للبنان ما بعد الطائف صورة معينة في ذهن حافظ الأسد وفي قراره.
وهي صورة لها ابعادها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية اضافة الى بعدها السياسي المباشر، خصوصا وانها تنطلق مما هو مشترك لدى السوريين واللبنانيين (وما اكثره)، ثم انها تحمل بعض ما في نفسه بالنشأة، وبعض ما اكتسب من بعد بالعقيدة ثم بالتجربة العملية الغنية.
ويروي الرئيس الأسد انه استقبل موفدا غربياً رفيع المستوى جاءه ابان احتدام الحرب الاهلية يطلب منه المساعدة على وقف الحرب وحماية النظام المتداعي في لبنان، ملمحا الى ضرورة مراعاة التوازنات الطائفية الدقيقة.
ولقد فوجئ هذا الموفد بحافظ الأسد يسأله: هل تسمح لنفسك، او لاي كان غيرك، بأن يحرم ابناءك حق الحلم؟«
ورد الموفد مأخوذا بغرابة السؤال: طبعا لا،
قال الأسد: ولكن اطفال لبنان محرومون من الحق في الحلم؟ فمن يولد بمحض المصادفة لاب كاثوليكي مثلا لا يحق له ان يحلم بأن يكون رئيسا للجمهورية، ومن يولد لأب درزي لا يحق له ان يكون قائدا للجيش، ومن يولد لأب ارثوذكسي لا يحق له ان يكون رئيساً للحكومة!!.
***
ليس العمل السياسي ارثا في نظر حافظ الأسد، ولا هو بالاخص احتكار لفئة او لطبقة او لطائفة ولا يجوز ان يكون.
كذلك فليس العمل السياسي »وظيفة« او »وجاهة« او »مهنة« منفصلة عن وظيفتها الاجتماعية، فالاقطاعي يمثل ويحمي مصالح الاقطاعيين بغض النظر عن ادعاءاته، والرأسمالي يهمه زيادة ارباحه ومضاعفتها ولو بافقار الناس اكثر فأكثر بغض النظر عن صدقاته وحسناته التي يحاول بها التستير على جشعه، والفقراء لا يمثلهم ويعبر عن همومهم الا الفقراء ابناء الفقراء.
وفي تحليل حافظ الأسد فإن النظام اللبناني بصيغته السابقة على الحرب الاهلية كان بين اسباب تلك الحرب ويتحمل اهله القسط الاكبر من المسؤولية عنها.
»حقا كان في لبنان اقلية تتمتع بوضع ممتاز، الى جانب اغلبية ساحقة من البؤساء والمحرومين، ولكم كان اهل النظام اغبياء حين لم يستمعوا الى دعوات الإمام موسى الصدر لضرورة الاصلاح السياسي بالانصاف الاجتماعي ورفع الغبن..
»كنت اقدر الإمام الصدر والتقيه كلما تيسر لي الوقت، وكنت افترض ان المسؤولين في لبنان سيصغون إليه وسيلبون مطالبه انقاذا لانفسهم ولنظامهم، خصوصا وانه لم يكن يؤمن بالسلاح ولم يكن يدعو الى الثورة المسلحة، وانما كان ينادي بالنضال السلمي من اجل التغيير بغير عنف، لذلك اختار التوعية بالمحاضرة والمناقشة والندوة ورفع الصوت في وجه الظالمين، محاولا الافادة من الهامش الديموقراطي وتعبئة الجمهور للمطالبة بحقه في ان يختار ممثليه المعبرين عن مطامحه…
»لكن النظام كان متحجرا، وكان مغلقا في وجه رياح التغيير،
»ثم ان الطائفية كانت تعطل اللعبة والعملية الديموقراطية، فمن نادى بتطوير النظام وجهت إليه اتهامات قاسية تمتد بين التأثر بالافكار الهدامة وبين اثارة النعرات الطائفية.
»الابشع ان اهل الموقع الممتاز في الحكم صوروا الامر وكأن اقطاعهم او احتكارهم للسلطة هو امتياز لطائفتهم وليس لاشخاصهم، في حين ان الاكثرية من المنتمين لهذه الطائفة يمكن ان ينطبق عليهم ما ينطبق على سائر اللبنانيين، فهم ايضا فقراء، وهم ايضا ابناء فلاحين وعمال وصغار كسبة.
»لكأنما تحصن الاقطاع السياسي الذي سرعان ما تحالف مع رأس المال بالطائفية، فبات المعترض عدوا للكيان واستطراداً عدوا للمسيحيين، في حين ان العدالة الاجتماعية مطلب للفقراء جميعا لاي دين انتموا وليست دعوة فئوية«.
***
يقول الرئيس حافظ الأسد ان كثيراً من الموفدين الاجانب الذين جاءوه بشأن لبنان، على امتداد سنوات الحرب الاهلية، كانوا يدركون سر معرفته التفصيلية بأوضاع لبنان واللبنانيين، لانهم يجهلون او يتجاهلون عمق الارتباط بين ابناء »هذا الشعب الواحد في دولتين«.
وفي ضوء تجربته فقد اكتشف ان معظم اهل النظام في لبنان لا يقلون جهلا عن اولئك الموفدين الاجانب.
ويروي الرئيس الأسد ان مسؤولين كبارا في بيروت زاروه، قبل الحرب وفي بداية السبعينيات، ليطلبوا منه بصيغة مهذبة التوقف عن تحريض الفلاحين في عكار، مركزين الاتهام على الافكار الهدامة وحملتها من الشيوعيين.
وحين استوضحهم عما يقوله المحرضون، اجاب »افصحهم«: انهم يعدون الفلاحين، وهم فقراء، بالخبز والمدرسة والكتاب والثوب النظيف والعمل المجزي أجره الخ.
ولقد قاطعه الرئيس الأسد ضاحكا: انك بهذا تروج للافكار الشيوعية، فحذار… فإذا كانت الشيوعية تعني هذا كله فكيف يبقى خارجها اي مواطن؟
ويستشهد حافظ الأسد بما كان يجري على طرفي »الحدود« اللبنانية السورية، من جهة عكار (وهي عكار على »الضفتين«): ففي عكار »السورية« كانت الدولة تساعد الفلاح بالتراكتور والبذار والاسمدة والمازوت ثم بشراء موسمه بسعر مقبول، في حين كان الفلاح العكاري اللبناني لا يجد غير الاضطهاد، من الاقطاعيين ثم من الدولة التي تقمعه اذا ما تنفس وتجبره على الانصياع لما يفرضونه عليه، اي ان يستسلم للظلم والجوع والقهر وكأنه قدره الذي لا مفر منه.
ولقد التفت حافظ الأسد، من ثم الى زواره اصحاب الشكوى فقال: » انا آسف، فإذا كنتم تعتبرون هذا التصرف من جانبنا تحريضا فلن نتوقف عن مثل هذا التحريض. ونصيحتي ان تعالجوا الامر بانصاف الناس وباقناعهم ان الدولة دولتهم وليست قوة قهر لهم لحساب الذين قهروهم على امتداد اجيال«.
***
يرفض حافظ الأسد رفضا مطلقا الادعاء القائل ان الديموقراطية يمكن ان تتعايش مع الطائفية والقهر الاجتماعي الفاضح.
وهو لا يفرق مطلقا بين »طائفي مسيحي« و»طائفي مسلم«، او بين »اقطاعي مسيحي« و»اقطاعي مسلم«…
بل لعله اشد قسوة على »المسلمين« من هؤلاء لائهم يمارسون قهرهم للفقراء من موقع الملتحق باصحاب الامتياز… فإذا كان اولئك يدافعون عن احتكارهم لمغانم الحكم والسلطان، فإن هؤلاء الملتحقين اشبه بالمرتزقة، لا يحظون باحترام »الممتازين« في حين تحاصرهم كراهية المظلومين والمضطهدين.
ويرجع حافظ الأسد الى التاريخ، معلمه الاكبر، فيستذكر كيف كان المستعمرون، الاتراك ثم الفرنسيون من بعدهم، يوزعون المغانم والمناصب والأراضي والالقاب على المتعاونين معهم ضد اهلهم: » فهل من المقبول ان يكون اولئك الذين حكموا باسم الاستعمار ولحسابه، حكاما في العهد الوطني، ثم ان يورثوا الحكم لابنائهم وكأنه وقف ذري او نعمة لا يستحقها الا الذي خرج على ارادة امته وساهم في قهر ابنائها«؟!
يستذكر حافظ الأسد، ايضا، بعض الذين انقلبوا من مناضلين وحدويين الى موظفين في خدمة الاجنبي عندما استشعروا ان الانفصال سيجعلهم حكاما في الدول الكرتونية التي اصطنعها…
***
يستعيد حافظ الأسد، بغير حقد، وقائع لها دلالة عميقة ولكنها قد تحولت بقوة التطور والتغيير الى طرائف، ومنها:
} ان »قطبا« من رموز النظام القديم ومن اركانه، قد جاءه عشية الانتخابات النيابية في لبنان العام 1972، يطلب التأييد والعون »لا سيما وان بعض فلاحيه قد تجرأوا فقرروا ان يرشحوا انفسهم ضده«!!
يشع وجه حافظ الأسد بابتسامة عريضة وهو يضيف قائلا: » لقد نسي هذا البيك، وقد كان من اصدقائنا، اننا نحن ايضا ابناء فلاحين، واننا عانينا امر مما عانى اخوتنا الفلاحون في لبنان لان اقطاعيينا كانوا اعظم جبروتا واعرق تقاليد في القهر والعسف واذلال الفلاحين الفقراء وقد كانوا في مرتبة الاقنان…«.
} ان »قطبا« اخر ادعى امامه انه حاول ان يساعد بعض ابناء الفلاحين على تحصيل العلم، ولكنه سرعان ما اكتشف ان هؤلاء المتخلفين معادون للتقدم وانهم سيبقون متخلفين، ولذا فمن الافضل لهم وللبلاد (والحكم طبعا) ان يبقوا في تخلفهم لا يغادرونه ولا يتطلعون الى فوق فيتعبوا!
***
لا بد من تغيير الدم في الحياة السياسية اللبنانية، يقول حافظ الأسد.
لقد هرمت الطبقة الحاكمة وتكشف عجزها وافلاسها حتى من قبل ان تنفجر الحرب الاهلية… كذلك فإن تلك الطبقة ظلت على ايمانها بالقدرات غير المحدودة للغرب ولم تستشعر في اي يوم ثقة بنفسها او بقدرتها، ربما لانها لم تكن تتقوى بثقة شعبها وتأييده. ظل الغرب هو السيد في نظرها، رغبته أوامر ومطالبه لا ترد، وعلى حساب الكرامة الوطنية او المصلحة القومية.
ويقول حافظ الأسد: » كريهة هي الحرب الاهلية ولا شك، ليس ابشع منها ولا اقسى… ولم تكن الحرب الاهلية في اي يوم مطلبا للفقراء وهم لم يلجأوا إليها لتحسين مواقعهم او لنيل حقهم في الحكم. على العكس تماما، فإن الذين ارادوا احتكار السلطة والنفوذ والمال هم الذين تسببوا في تفجيرها، بقصر نظرهم او بارتباطاتهم او بعجزهم عن استيعاب منطق التطور. ليس مطلب الفقراء في اي مكان وزمان تدمير المدن واحراق البيوت والقتل الجماعي، خصوصا وانهم هم الضحايا دائما.
»على ان الحرب الكريهة التي عصفت بلبنان واللبنانيين قد كشفت عبر مآسيها، الحاجة الى التغيير وضرورة تجديد الدم في الحياة السياسية اللبنانية، بل على المستويات كافة.
»وكان لا بد من ان تتهاوى الجدران السميكة للنادي السياسي، وان ينفتح الباب امام شرائح وفئات اجتماعية جديدة قد يحمل افرادها الغريب من الاسماء وقد لا يكون بعضهم في مستوى الطموح الى التغيير، وقد يكون بينهم من هو فعليا اسوأ ممن كان قبله…
»ولعل بعض نتائج هذا التطور قد تبلورت عبر الانتخابات النيابية الاخيرة، وبالتأكيد فإن بين من انتخبوا وباتوا الآن نوابا من لم يكونوا يحلمون بأن يتم لهم ما تم، وبأن يحتلوا مقاعد »البكوات« والاسياد السابقين في البرلمان والحكومة والرئاسات…«.
***
حافظ الأسد لا يتعجل الامور، فما تم في لبنان حتى الآن مقبول:
» ربما لم يكن هؤلاء الافضل، لكن السابقين كانوا اسوأ بالتأكيد، ثم ان الحساب بات ممكنا والباب مفتوح باستمرار للتغيير.
»المهم ان يحافظ هؤلاء الذين جاءوا باسم التغيير على خطهم وراياتهم والا يسقطوها او يبيعوها بمنصب او بمغنم آني فيصاب جمهورهم بالخيبة…
»المهم ان يكون هذا التغيير خطوة واسعة في اتجاه الخروج من كهوف الطائفية والمذهبية الى نور العمل الوطني والقومي.
»ومرة اخرى، فلا ديموقراطية مع الطائفية ومع احتكار السلطة (وتحصينها بالمال) باسم الطائفية وحقوق الطوائف… ولا ديموقراطية طبعا مع الامتيازات، والامتياز ليس لطائفة بل هو لمجموعة من محتكري السلطة باسم السلطة الطائفية، والذين ورثوها، الذين نالوها من الاجنبي كامتياز لانهم خدموه على حساب شعبهم وليس من اجل الحرية والسيادة والاستقلال«.
***
ولبنان حاضر دائما في مجلس الأسد، لا يغيب عنه حتى لو لم يكن »الضيف« من اهل الحكم فيه، كما بالامس، او لم يكن لبنان هو الموضوع الاصلي للحديث…
وسنعود الى حديث لبنان كلما تطرقنا الى اولئك الذين اموا مجلس حافظ الأسد، وما اكثرهم، وتناوبوا على الجلوس في هذا المقعد الى يساره متوجهين إليه بطلب العون او بالتشكي، مناشدين او معتذرين عن خطأ متعمد او عن قصور في الفهم او عن مبالغة في الاجتهاد، او لا سيما عن تجاوز للمدى في توهم الحصول على دعم »الغريب«.
ولكم ان تجتهدوا في توصيف »قمة الترشيد«، أمس الأول، وفي احلالها محلها الصحيح في احدى هذه الخانات!.
فحافظ الأسد هو حافظ الأسد، لكن كثيرين يبدلون »خطابهم« امامه عن كل ما قالوه ويقولونه خارج هذا المجلس على امل ان يحظوا بنعمة الرضا، وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث!.

Exit mobile version