طلال سلمان

لبنان في مجلس امن فرصة لاستعادة دور داعية عربي

أخيراً… انتهى الموسم الطويل للأعياد والاحتفال بعودة الحياة إلى الوطن الصغير المزدهي بتنوعه وتعدّد الأمزجة والأغراض والمصالح فيه، دولية وعربية ومحلية، طائفية ومذهبية مسيسة، أو سياسية مطأفة وممذهبة أو بين بين…
عاد كبار المسؤولين ـ بالسلامة ـ من إجازاتهم في العواصم الجميلة والأنيقة، حيث لا تهديدات إسرائيلية بالطيران الحربي أو بالتصريحات الإرهابية، ولا أزمات سير وكهرباء ومياه إلخ…
وبرغم أن بيروت قد تراجعت عن موقعها كعاصمة كونية للحروب الأهلية لتعود ـ مرة أخرى ـ واحدة من أشهر عواصم المتعة واللهو والسهر مع الطرب والرقص وما يستتبعه «الجو الحميم» او يشتق منه، فإن أمام لبنان مهمة خطيرة وجليلة تستوجب الكثير من الاهتمام والجدية والإحساس العميق بالمسؤولية:
ذلك أن لبنان قد عاد، بعد دهر، ليشغل مقعد (عضو غير دائم) في مجلس الأمن الدولي… أي أنه سيكون الصوت العربي الوحيد في هذا المجلس الذي حوّله الانفراد الأميركي بالقرار الكوني إلى مكتب تصديق على القرارات المعادية للشعوب، وبينها «تشريع» الاحتلال بالقوة العسكرية و«إلغاء» دول عربية أو إسلامية، أو تمزيق وحدة شعوبها (نموذج العراق)… فضلاً عن نصرة «دولة يهود العالم» وتبرئتها من الجرائم اليومية التي ترتكبها ضد شعب فلسطين في أرضه ومقدساته وفي حقه المشروع في أن تكون له «دولة» ما، ولو على بعض البعض من أرضه، قبل أن يحتلها المستوطنون من خلف جدار الفصل العنصري ومن قدامه، بالكامل… ومن قبل أن يتم «تطهير» القدس (الشرقية) من أهلها العرب (مسلمين ومسيحيين)، ولو بتهديم المسجد الأقصى (وربما كنيسة القيامة) على رؤوس المصلين.
لبنان، مرة أخرى، إذاً، في مجلس الأمن الدولي…
ليس في العودة، وقد تمت بتزكية عربية وموافقة دولية، ما يستحق المفاخرة… لكن الدور الذي قد يتيسّر للبنان أن يلعبه في مؤسسة القرار الدولي قد يعوّضه بعض ما خسره من رصيد (عربي أساساً، ودولي بالتالي) خلال دهر الحروب الأهلية الذي كاد أن يكون بلا نهاية…
إنها فرصة ممتازة لكي يتخفف لبنان من إشكالاته الداخلية المتوالدة من ذاتها، والتي يتداخل فيها العربي والدولي (والإسرائيلي ضمناً) والمحلي الطوائفي والمذهبي والعنصري (إذا ما استذكرنا الحملات التي تضيع عن هدفها الإسرائيلي إلى اللاجئين الفلسطينيين في لبنان)..
وهي فرصة ممتازة لكي يستعيد لبنان دوره المتميز في الدعوة وفي التقديم الصحيح لقضايا العرب جميعاً: فلسطين أساساً، خصوصاً وقد ناله الكثير من الأذى جراء الاحتلال الإسرائيلي لأرضها وإرادة شعبها، فدفع من هناءة شعبه كلفة باهظة تدميراً وتهجيراً وقصفاً وتخريباً وفتناً وشبكات تجسس لتشويه سمعة هذا الوطن الصغير الذي قدم نموذجاً فريداً في المقاومة وحقق ـ بجهاده ـ التحرير، ثم واجه الحرب الإسرائيلية فأفشلها دون أهدافها وانتصر شعبه بالتضامن العظيم الذي تبدى خلالها، على امتداد 33 يوماً (12 تموز ـ 14 آب 2006)…
إن لبنان اليوم، هو العربي بامتياز، من فوق المنبر الدولي. لا تأخذه شبهة الانحياز أو التطرف. هو الداعية الأفصح وإن كان الأخ الأصغر. هو المثقف العارف أصول المواضيع جميعاً. إنه يتمتع بألق التميز وحيوية الداعية، المتمكن من أصل القضية بل القضايا كلها، وقد كان في بعضها مؤسساً بعلمه وكفاءته واستشهاد مناضليه فوق أكثر من أرض عربية كان شعبها يقاتل من أجل استقلالها.
لقد تعلّم كثيراً وتخرّج بامتياز بقوة الدم المسفوح فوق أرضه والذي رفعه من مرتبة «بنيامين العرب» إلى موقع القدوة، بسالة وكفاءة.
هو «المحايد» إلا في موضوع الاحتلال الأجنبي وقهر الشعوب. ففلسطين محتلة، ومحتلها يريد تحويلها إلى دولة يهود العالم مصدراً حكمه ـ بلسان أميركي ـ بتشريد الشعب الفلسطيني في أربع رياح الأرض، إلى الأبد…
وهو «المحايد» إلا في موضوع الاحتلال الأميركي للعراق، وقد ذهب بوحدة شعبه فجعله طوائف ومذاهب وعناصر وأعراقاً مقتتلة، ومزق كيانه السياسي لكي يطمئن إلى وضع يديه على مصادر الثورة فيه (النفط) حتى يشيب الغراب. ومكّن منه عصابات الإرهاب المسلح، على شكل ميليشيات جاء بها كمرتزقة (بلاك ووتر) أو رعى قيام ميليشيات طائفية فأشرف على تدريبها وتسليحها وجرائمها ليتخذ منها مبرراً إضافياً لاحتياج العراقيين إلى حارس لأمنهم في مواجهة «القاعدة» وأطماع الجيران…
وها هو على وشك أن يكرر التجربة في اليمن الذي نسي أهله متى كان سعيداً وهو ينتقل من حرب أهلية إلى أخرى…
لنعد إلى الداخل: برغم أن لبنان كان، مثله مثل سائر الدول العربية، ضحية الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة التي بلغت أحياناً كثيرة حد الحرب والاحتلال (1978 حتى الليطاني، 1982 حتى العاصمة الأميرة بيروت، 1993 حتى تهجير مئات الآلاف بالمجازر والتهديم وطرد أهل الجنوب من مدنهم وقراهم، 1996، وقد هجّر مليون مواطن… ثم الحرب المدمرة في تموز 2006 وقد أحرقت بنارها الجنوب وبعض البقاع والضاحية النوّارة وبعض بيروت والجبل والشمال)…
… برغم ذلك كله، ونتيجة للهيمنة الأميركية المطلقة، وضعف الأداء العربي (حتى لا نقول بانعدام الدور العربي) فقد كانت القرارات الصادرة عن مجلس الأمن حول لبنان والتدخل بالحرب ـ إسرائيلياً ـ في شؤونه الداخلية ظالمة ومنحازة لإسرائيل لا تنفع إلا في التغطية على جرائمها، وأحياناً بتحميل المسؤولية للبنان، بمقاومته أحياناً وبدولته جميعاً في أحيان كثيرة.
أشهر تلك القرارات السيئة السمعة والتي شكّلت مصدراً للخلافات الداخلية، بتصويرها سوريا والفلسطينيين والمقاومة في لبنان وكأنها مصادر الاختلال السياسي والتفجير الأمني، هو القرار 1559 الذي «شرعن» التدخل الدولي في الشؤون الداخلية، وشجع قوى الانحراف والتطرف والانعزال في الداخل.
ومن حق لبنان أن يطالب مندوبه في مجلس الأمن بطي الصفحة السوداء للقرار 1559 الذي صدر في التوقيت الغلط ولهدف خاطئ وبمبررات خبيثة تستهدف إثارة الفتن داخلياً، أكثر مما ترمي إلى إخراج الجيش السوري من لبنان «لتمكينه من استعادة استقلاله». (هل من الضروري الاعتذار من السفيرة الأميركية ـ الثرثارة لحرمانها متعتها في الإصرار على تنفيذ القرار 1559 فوراً وبكل بنوده، توكيداً لسيادة لبنان التي جاءت سعادتها لتثبيتها؟)!
إنها المهمة الأولى للحكومة ولمندوبنا في مجلس الأمن الدولي الدكتور نواف سلام، الذي لا يمنع منصبه الدبلوماسي الممتاز من التذكير بدوره كمقاتل من أجل تحرير فلسطين وليس لبنان فحسب…
ومن مفاخر اللبنانيين (تاريخياً) أن واحداً من أبنائهم (الدكتور شارل مالك) قد أسهم في صياغة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي اعتمدتها الأمم المتحدة ميثاقاً، عجزت عن الالتزام به إلا في النادر من الحالات.
أما ما لا نتمناه اليوم فهو أن يكون المندوب اللبناني الجديد بين من يكتبون النعي الرسمي لهذه المؤسسة الدولة، بهيئتها العامة التي باتت مجرد منتدى خطابي، ومجلس أمنها الذي بات مصدر التشريع للاحتلال الأميركي لأية دولة في العالم (عربية وإسلامية بالذات) وكذلك للاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية (والإرادة العربية) مموهاً بالشرعية الدولية الممهورة بأختام البيت الأبيض، كما في مؤتمر أنابوليس الذي أسبغ فيه الرئيس الأميركي السابق على إسرائيل صفة «دولة يهود العالم»، ثم لم يفعل خلفه إلا ما يؤكد تلك الصفة…
وفي انتظار إنجاز المهمات التاريخية في مجلس الأمن الدولي لا بد من الترويح عن النفس بالسجالات «المهضومة» حول إلغاء أو استبقاء الطائفية السياسية وحول اعتماد الصيغة القديمة لطاولة الحوار الوطني أو تكليف نجارين جدد بابتداع طاولة تتسع لكل من نشرت الصحف أسماءهم من وجاهات السياسة والطائفية أكثر من مرة.
فليس أمتع من الحوار… إلا الحوار حول الحوار!

Exit mobile version