طلال سلمان

“لا يهم إن كانت اشتراكية أو ديمقراطية أو رأسمالية أو ديكتاتورية”

سئلت فاحترت وفي غمرة الحيرة لم أجب. سئلت وأنا الملم ببعض أفرع علم السياسة، وأنا الممارس أحيانا للسياسة والمراقب لها في أحيان أخرى، وأنا الصغير الحالم بها عالما مثيرا ثم الرجل في منتصف العمر المتمرد على غيها وغواياتها ثم الكهل طويل العمر المعاصر والمتألم لخيبات أمل لا تحصى وتطلعات أمم لم تتحقق ولحكايات عن بطولات ونكبات في ثورات لم تكتمل كل فصولها. سئلت وأنا كل هذا وأكثر فاحترت ولم أجب.


أظن أنني لم أعش فترة اجتمعت فيها تطورات سياسية في جميع أو أغلب قارات العالم مثل الفترة التي نعيشها الآن. يكاد لا يمر يوم من دون إضافة جديدة في مشهد فريد من مشاهد السياسة. مرة أتانا النبأ من الشرق، من تايلاند تحديدا، ولم يكد ينتصف النهار إلا ولحق به نبأ أخر آت من الغرب، وتحديدا من فنزويلا. وفي الليل تزاحمت ناقلات الأنباء ليكون لإحداها سبق إبلاغنا أن اشتباكا سياسيا اشتعل بين فرنسا وإيطاليا، قيل إن السبب واه ولا يستحق إيقاظ أوروبا ثم اتضح أن الأسباب كثيرة وتستحق بالفعل أن يستيقظ العالم لوأدها قبل استفحالها. اليوم بنهاره وليله حافل بالأنباء المثيرة للقلق على مستقبل السياسة بعد أن كنا، أقصد نحن غالبية شعوب الأرض، استوفينا شرط التأهل بعد النضج لنقيم السياسة التي ارتحنا إليها أكثر من غيرها. يشهد علينا التاريخ أننا جربنا كل عقيدة ابتكرها عقل الإنسان سعيا وراء النظام الأمثل لحكم البشر في مختلف مراحل تطورهم. فكرنا وتفلسفنا وابتكرنا وجربنا، بل وقاتلنا ودمرنا وشيدنا لنفرض عقيدة ونحذف أخرى. ساد الظن، في نهاية مطافنا، بأن البشرية حققت مبتغاها وستركن في هدوء إلى ما اختارت وتنعم باستقرار لا تصححه ثورات ولا تهدده انقلابات وانتفاضات وتنظيمات سرية. خاب الظن.


لم يخطر على بال كثيرين وأنا منهم أن الاستقرار مع الرخاء يمكن أن يصنعا مواطنا من نوع دونالد ترامب. هذا المواطن، وبمساعدة ظروف بعينها، استطاع أن يعين نفسه نقيضا تاريخيا لحال الاستقرار ومعنى الوطن وكمال الدستور وخصوبة الحلم الأمريكي ووحدة الغرب “الديمقراطي”. استطاع مستعينا بتكوينات اجتماعية متناثرة أن يثير الطاقات السلبية التي حفل بها مجتمع ديناميكي كالمجتمع الأمريكي ليفجر بها الشغب بل والفوضى أحيانا داخل مؤسسات الدولة الدستورية والضارب بعضها في عقيدة النشأة الأمريكية. استطاع مستفيدا من تحولات داخلية وخارجية أفرزتها مرحلة العولمة أن يشعلها حربا لا هوادة فيها بين الدولة التي تعارفنا على وصفها بالعميقة والدولة الجديدة التي سوف نتعارف على وصفها بالضحلة أو السطحية. هذه الدولة الضحلة هي المشتبكة الآن مع الدولة العميقة في معظم بلاد العالم. الحرب بينهما تفاجئنا كل يوم، بل كل ساعة من اليوم، بأنباء عن تطورات سياسية لم نكن نتوقعها. تلقيت اتصالا من زميلة تكتب في الصحف الأمريكية، عبرت فيه عن سعادتها لأن سمعها بدأ يتعود على كلمة الاشتراكية في الخطاب السياسي الأمريكي بعد عمر من الإنكار. سمعت الكلمة تصدر على استحياء خلال الحملة الانتخابية لاختيار مرشح الحزب الديمقراطي، وهي الحملة التي فازت فيها هيلاري كلينتون على السيناتور بيرني ساندرز، وأسمعها الآن مع أصدائها تطلقها النائبة الجديدة ألكساندريا أوكاسيو كورتيز داخل قاعات المؤسسة التشريعية وأقصد الكونجرس الأمريكي، قلب الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية. أغلب الظن أن شيئا يتغير في حقل السياسة الأمريكية ولن يعود الحقل إلى ما كان عليه قبل اختراق ترامب لهذا الحقل.


جنوبا وفي أمريكا اللاتينية تحديدا يتكرر “المشهد النموذج”. أقصد مشهد التصرف الأمريكي لتأديب دولة لاتينية مارقة. كنت نفسي شاهدا على بداية المشهد ومكلفا بمراقبة الانتخابات التي جاءت بادوار دو فراي رئيسا لتشيلي. وقتها تحالفت الكنيسة وألمانيا الغربية والولايات المتحدة ودول جوار لمنع “سلفادور آليندي” المرشح عن اليساريين من الفوز. بعد هذا الفوز استجمعت قوى اليسار قدراتها واستطاعت أن تحقق فوزا مؤكدا في أول انتخابات لاحقة. الجديد في المشهد أن هنري كيسنجر تولى إدارته بنفسه. فرض الحصار الاقتصادي على تشيلي متسببا في حملة تجويع وهروب رؤوس الأموال وإغلاق مناجم النحاس وتشكيل حلف معادي للدولة الاشتراكية وتأليب القوات المسلحة على الحكم الشرعي وفرض الجنرال بينوشيه قائدا للجيش واغتيال الرئيس آليندي.

بقية المشهد حية في أذهان حكام أمريكا الجنوبية إلى أيامنا هذه، أيام يحل فيها جون بولتون محل هنري كيسنجر متطوعا لتنفيذ الخطة الكيسنجرية بحذافيرها. حصار اقتصادي لدولة فنزويلا وحملة تجويع لشعبها وما يقترب من وقف بيع النفط الخام وتنظيم مظاهرات النساء، وبخاصة نساء الطبقة الوسطى المطالبة بالغذاء. تكتمل الخطة بإقامة حلف للدول التي تنقلب على النظام الاشتراكي، وبالفعل تشارك في هذا الحلف معظم الدول المؤثرة مثل الأرجنتين والبرازيل وبيرو وكولومبيا. الجيوش الأجنبية تتجمع على الحدود وبينها جحافل من المرتزقة كتلك التي انضمت مؤخرا لجيوش نظامية في دول بالشرق الأوسط. في المرتين كان الخوف من أن تقع الثروة الخام في أيدي مستثمرين من دول غير غربية وبالتخصيص غير أمريكية. نعرف بالتأكيد أن للصين والاتحاد الروسي استثمارات كبيرة جدا في فنزويلا وقروضا تستحق السداد وأظن أن كلا الدولتين لا تريدان أن يكون إسقاط الحكم في فنزويلا نموذجا يحتذيه الغرب في أفريقيا. كلنا الآن والأفريقيون بخاصة في انتظار الفصل الأخير من هذا المشهد.


لا الشعارات الثورية البوليفارية ولا التجارب المتواضعة في تضييق فجوة الدخول ولا العمالة الاجتماعية ولا الاشتراكية في أثوابها المتنوعة ولا الرأسمالية في تنويعاتها المتحضرة أو الوحشية ولا عودة الجيوش للحكم المباشر أو من الخلف ولا الالتزام بالديمقراطية واثقا كان أم مترددا أم انتهازيا ولا التعهد بالسلوك الليبرالي ولا ادعاء التقديس للحقوق والحريات، لا شيء من هذا يهم الدول ذات الشأن.


تأملت طويلا في صور صادرة عن اجتماعات قمة الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا. عدت بعد ساعات أنظر إليها بعيون طبقات سياسية حاكمة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي والصين. نظرة التأمل خضعت لاعتبارات عاطفية أما النظرة بعيون حكومات الدول القوية وكثيرات غيره فجاءت مستغرقة في شره النهب السريع. أذكر أنني في أول زياراتي لأفريقيا وقفت في أكثر من موقع منبهرا بقدرة الإنسان الأبيض على أن يتحول إلى وحش مفترس في اللحظة التي تطأ قدماه أرضا أفريقية.. شاهدت بالعين المجردة ما خلفه الاستعمار. تمنيت ألا يعود إلى إفريقيا. أقرب شئ في التاريخ الإفريقي يشبه الواقع الراهن هو منظر السباق الاستعماري في مؤتمر انعقد من أجل توزيع الأنصبة وتجنب الاحتكاك وتحديد أدوار المشاركين. السباق في طبعته الجديدة أشبه جدا بحال سعار إمبريالي بين دول عادت تتوحش أو بدأت. أعرف أن الصين الملتزمة شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول لا تعير اهتماما من أي درجة بحكومة إفريقية فاسدة حتى العظم أو حكومة إفريقية أخرى تستبد بشعبها أو تطرد من أرضها قبائل أو تبيد طوائف أو تعتقل معارضيها بدون محاكمات.

الصين، وحكامها من جنس غير الأبيض، لا تهتم بعقيدة دولة من دول العالم الأسمر أو الأصفر أو بسلوكيات قادتها أو بقوانينهم ودساتيرهم، الصين مثلها مثل عتاة الدول البيضاء ذات التاريخ الاستعماري العتيد لا ولن تأبه بما يفعله الحكام الأجانب بشعوبهم. إنه عصر جديد. الصين تريد مواد خام وثروات طبيعية وتسهيلات ومواني لتسهيل نقل وحماية منتجاتها ومشترياتها وأسواق لاستثمار فائض ثرواتها، مغظم ما تريده الصين تريده أيضا روسيا وجانب كبير منه ما يزال في حوزة الاستعمار القديم الذي لم يغادر أو العائد وبقوة. المؤشرات تشير إلى احتكاكات وربما تطورت إلى اشتباكات. أحدها هذا التدفق في الخفاء لقوات أمريكية في غرب وشرق أفريقيا، وهذا السباق الرهيب في كل أبعاده لاحتلال سواحل البحر الأحمر، وهذه العودة الفرنسية الإمبريالية في كل معانيها، وهذا الاحتكاك المبكر لمصالح فرنسية وإيطالية في ليبيا. وهناك في آسيا سباق من نوع آخر، سباق يحدد المقصود بالهيمنة على شبكة النقل والمواصلات في وسط آسيا، قلب أوراسيا حلم المستقبل، أحد طرفيها في البرتغال على حافة الأطلسي والطرف الآخر شرق بكين على حافة الباسيفيكي.

هل يهم من سيحكم في كابول وما سوف يفعله الطالبان بالشعب الأفغاني؟ لا. لا يهم. هل يهم أن حاكما من حكام وسط آسيا عدل قبل أيام دستور بلاده لتخلفه امرأته في منصب الرئيس؟ لا. لا يهم. هل يهم أن المظاهرات في بلد إفريقي مستمرة لأكثر من شهر تطالب بالتغيير. لا التغيير وقع ولا المظاهرات توقفت؟. لا. لا يهم. هل يهم إن تمردت أميرة آسيوية في بلد تحكمه ملكية دستورية وتنازلت عن امتيازاتها وحصانتها الملكية لتصبح رئيسة للوزراء في حكومة مدنية مصيرها أن تواجه التحالف القائم والمهيمن بين القصر الملكي والجيش؟ طبعا يهم تايلاند. لا أكثر.


الاهتمام الآن يستجمع قواه ليركز على أنباء القوى الشعبوية الأوروبية التي تلم أطرافها وتفريعاتها استعدادا لانتخابات البرلمان الأوروبي بعد أسابيع قليلة. قلت من قبل أن بصمات ستيف بانون في كل المواقع صارت بارزة للعين المجردة، ويزداد إصراري فأقولها مجددا إن معركة الشعبويين القادمة مع الأحزاب التقليدية الأوروبية، وبتعبير أدق مع النظام الأوروبي، سوف تخلف آثارا عميقة في أوروبا و في مفهوم ومضمون السياسة في القارات الأخرى.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version