طلال سلمان

لا يا جورج

لم تودع احداً. لم تلوح بيديك. خرجت من الدنيا ولم تطبع قبلة لابنتك. ولم تعبطك العائلة. تخبطت بنيرانك ومضيت. ثم حضرتَ بغيابك الفاجع، كأنك تريدنا أن نتبرع لك بالدمع. بكيناك بذهول، والغريب، اننا لم نكتشف كما تشبهنا. لقد انكسرنا، وفجأة اكتشفنا أنك منا ولنا… ومضيت بعيداً عنا.

لا يا جورج. ليس من حقك أن تكون وحيداً. كثيرون مثلك، يتسكعون ليبيعوا قوتهم من اجل حفنة من القوت. لا نستطيع مجاراتك ابداً. ربما الموت لغيرك يقنعنا أكثر. ها نحن على قارعة الحزن. نعد أصابعنا ولست بيننا… خذلتك دولتك؟ لست وحدك. المتسكعون على ابواب البحث عن عمل ينظرون إلى بعضهم البعض وينتظرون البطالة والفراغ. على الأرجح يفكرون مثلك، ولكنهم حيث يجب. ويغامرون بالوقت، لعل، وليت، وربما… ولكن لا شيء. الأفق بقعة. بحجم رغيف من حجر.

لا ألومك يا جورج. أنت قديس العذابات المرة. لو لم ينضج اليأس في قلبك وتيبس على يديك، لما خرجت من الحياة بهذا الاندلاع المهزوم. لا أحد يعيب عليك نهايتك. انت لم تردها. دفعوك اليها. مجرمون وسفاحون. وجوههم كقلوبهم من حيطان وكلس الكلام… لا نستطيع أن نكون مثلك ولا يجب. انت جورج اللبناني، ولست البوعزيزي التونسي. نحن مهزومون. لا تحركنا النيران. لا غضب في قبضاتنا. نملأ الفراغ بكلا م فارغ. نشبه الكلاب الشاردة وأرانب السيرك. أصواتنا فارغة. مسيرتنا بلا ماوية. أحزابنا يتم استعمالها في غير أمكنتها. إعلامنا لفافة تبغ ملغومة. مدارسنا طبقات. بعضها للأغنياء وأكثرها للفقراء ولا مقعد للمعدمين. لا قيمة للمواهب. لا قداسة للطفولة. لا براءة للغة. عالم تجاري بضاعته الابجدية والامية الاخلاقية. هكذا يتم تعقيم الناس. فالمدارس متاريس لتخريج قبضيات الطوائف والأزلام.

لا تلمنا يا جورج، إن رد فعلنا البريء ليس وازناً. ألسنا ضحايا هذا النظام؟ اليس النظام أقوى منا جميعاً؟ اليس الشارع ملكاً للقبضايات؟ اليس يتحرك بإشارة او ايماءة من الزعيم. لقد تركناهم يسرقون امكنتنا. مساكين نحن. شتات من الطيبين المصابين بمصاب الآخر: إما تكون مثلي او لا. بدائيون بعدنا. لم ندرك أن الفوارق بيننا تدفع لجورج إلى أن يُحرق قلب عائلته كل صباح وقلوبنا الخائرة في كل مناسبة. لسنا اهلاً لاستقبال اشتعالك. لن تصبح نارك يا جورج شعلة التحرر. سنضعك في مصاف الشهداء والقديسين. سنحترم جلجلة عائلتك. وصعب أن ننسى… ولكننا، سننسى في ما بعد. لأن الناس في لبنان، الغد يوم آخر. يوم منفصل عن يوم اشتعالك.

نوع من الثرثرة العدمية نحن. حديث مقاهٍ نحن. تكيَّةُ اخوان نحن. مجتمع مدني بعدد الذرات. كم قبضة نحن؟ كم غضب نحن؟ وليس من نحن؟ فنتوزع هويات وجمعيات وتجمعات، نلتقي على زغل.

الغضب، يقيم صداقة مع الاسفلت، حيث للأقدام إيقاع يُسمع ويُفهم ويقنع اهل الظلم بالعاقبة. لا نريد صراخاً. نريد صمتاً مرصوصاً بغضب لصيق بالقبضات. هذه طبقة سياسية مالية شجاعة بسبب عدم شعورها بالخوف والقلق على مصالحها. كل التغيير عندهم انهم ينقلون الكراسي ويتنقلون عليها. فمتى تقص أرجل هذ الكراسي؟

لا يا جورج. العدو من امامك ومن كل الجهات. انه متوحش ومن جنس آكلة لحوم الفقراء. ومع ذلك. الرهان على قدم تتقدم وتلبط هذه السلطة، مرة تلو مرة، كي يكون لاشتعالك معنى.

فمن يتقدم بقدمه، غداً وبعد غد وكل يوم، ليقول. وداعاً أيها الكسل. وتباً أيها الفشل؟

سلام عليك يا جورج، يوم اشتعلت، ويوم تولد مرة أخرى.

أما الآن، فليس لنا غير الاحزان بكامل بلاغتها. أنك تستحق، أن تكون الايقونة. وحتى الآن، لا نعرف منصة انتصار، لنضعها فوقها. لعل ذات غدٍ نجيء بالصباح، ونشعل اشعته من نارك.

إن لم يكن ذلك هكذا، فسنبقى نمثل جيل المتسكعين الجبناء، وإننا لنستحق السحق.

Exit mobile version