طلال سلمان

لا نتغير

وصلت مبكرا عن موعد الافتتاح. صادفت مرات حضوري فى السنوات الأخيرة هبوط الليل وتحذيرات رفاق السهر وأصدقاء الموقع من تشوهات في أسفلت الشوارع ورخام الأرصفة المؤدية إليه والمحيطة به. دائما أتشبث بذكريات أيام عتيقة حين أحاطت بالمكان بساتين وحدائق وطرق كالحرير وأرصفة تتناثر فيها أرائك أنيقة، ودائما يتشبث الأصغر عمرا من الرفاق والأصدقاء بموقفهم، خذ حذرك فالدنيا تغيرت. أرد عليهم: نعم تغيرت وتتغير، ولكن هناك ما لا يتغير.

***

تحت ضوء خافت منبعث من مصباح عظيم الارتفاع رآها تتقدم نحوه بخطى نشيطة على عكس خطاه المتسكعة. اقتربت منه وهي تهلل قائلة عرفتك ولم تعرفني. أنا كنت الطفلة التي كانت تتلهف أحضانك. ما رأيتك مرة إلا وركضت نحوك لترفعني إلى صدرك فألف رقبتك بذراعييّ وأنهال على وجهك تقبيلا. إن نسيت تلك الأيام فلن أنسى لحظات اختلاط انتشائي بهلعي وأنت تلقي بي عاليا لتلتقطني قبل أن تلمس الأرض قدماي، أو أنسى قعودي فوق قدميك ترفعني معهما بساقيك فتكاد رأسي وسقف الغرفة يتلامسان وعيناك تبرقان سعادة ورضاء بضحكاتي وصيحات دلالي وهنائي.

أنت سافرت بعيدا وبتعبير أهل بلدنا سرعان ما تأهلت. وأنا كبرت وتخرجت وتزوجت وأنجبت بنين وبنات لينجبوا بدورهم فيصير لي حفيدات وأحفاد. تابعت من على البعد رحلاتك وأسفارك وبعض مغامراتك. قرأت لك وعنك. كنت دائما في حياتي الحاضر الغائب. أصبحت دون أن تدري المعلم وأحيانا الموجه وكثيرا ما ظهر لي في أحلامي صوتك يهدئني إن تخلت عني أعصابي ويلهمني إن تعثرت الحلول وتداخلت الأمور وتشابكت المشاعر والأحاسيس. أقضي ساعات ممتعة أتحدث مع أحفادي عنك. أحكي لهم عن اكتشافاتك العلمية والمناصب الدولية التي تقلدتها، وبين الحكاية والحكاية فاصل عن الطفلة التي كانت تتسلق الكنبة المجاورة للشباك ترتب لنفسها مكانا يطل على طول الشارع الممتد حتى محطة الترام. هناك بقرب الشباب أجلس في انتظار نزولك من الترام. أراك تعبر الطريق في اتجاه دكان على الناصية تشتري منه حلوى تخصني وعلبة سيجارة تخصك ثم تمشي في اتجاه بنايتنا ممشوق القوام ثابت الخطى، ومن حولك يمينا وشمالا أنظار «حريم الحي» معلقة بك وتحيات أصحاب المحلات تلقى عليك. أما أنا فالزهو يملأني ويفيض. أنا الوحيدة التي سوف يتوقف أمام شقتها ليحملها بين ذراعيه لتحتضنه في شوق بالغ وتغرق وجهه بالقبل وتمد يدها في جيبه وتسحب قطعة الحلوى التي تخصها.

***

عقبت إحدى حفيداتي ذات مرة فقالت، أخالك يا جدتي تعيشين تلك اللحظات كما لو كانت واقعة بالأمس. هل تصدقين أنك وأنت تقصين علينا تفاصيل علاقتك بهذا الجار يحدث لنا أحيانا أن نسمع صوت الطفلة وليس صوتك يحل فيك. كدنا نقتنع أنك والطفلة لا تفترقان.

أراك في حرج. أنت لا تذكرنى. غريب أمرك. هل تصدقني إن قلت لك أنك لم تتغير. لا أبالغ بل أقسم لك أنني لا أبالغ. ألا تسأل نفسك كيف عرفتك من بين عشرات المارة وفي هذا الضوء الضعيف، وبعد مرور عشرات السنين. أنا أجيبك لو أنك سمحت لنا أن نجلس قليلا. لقد عرفت أنك تعرضت مثلى لعذاب آلام الظهر لسنوات عديدة وكلانا بلا شك وصلته نصيحة طبيب بألا يطيل الوقوف. تعالى نجلس هنا. لا تنظر هنا وهناك باحثا عن مارة يتعرفون علينا. أنا لا أبالي فأنت معي. أنت حق من حقوق طفولتي، ولن أتخلى عن هذا الحق تحت ضغط أى شخص أو قهر أية قوة على هذه الأرض. هذه يدك أسحبها لأسند عليها وأنا أصعد الرصيف. إنها اليد التي كانت ترفعني منفردة لألمس بيدي الصغيرة حبات الكريستال المتدلية من الثريا.

***

الآن أشعر أنك بدأت تذكرني. قبضة يدك القوية على يدي الضعيفة أعلنت لي تجاوزك حرج اللحظة واستغرابك حكايتي معك. أيها الحبيب، حبيب طفولتي، عرفتك فور أن رأيتك. ليس في المسألة سحر أو ادعاء أو مبالغة. سافرت وغبت طويلا. اختفيت من واقعى ولكنك بقيت في مخيلتي. كنت جزءا حيويا من حقيقتي كطفلة بينما كنت أنا جزءا عابرا من حقيقتك كشاب متعدد الهوايات ثم المشاغل. لا أظن وأنا في هذه المرحلة المتزنة من عمري، أظن أننى لم أكن أحتل مكانا ثابتا في خريطة أماكنك في تلك المرحلة. أكرر لتفهمني. عشت طفولة غنية بالحب والرعاية جعلتني أنشأ فتاة ثم امرأة شديدة الاعتزاز بهذه المرحلة من حياتها. لم أفترق عن أحب عرائسي إلى قلبي. حاولوا يوم عرسي انتزاعها من غرفتنا فهددت بأن ألجأ إلى الاختيار، أي إلى فضيحة. قلت ولم يفهموا. قلت لا أحد في الكون يستطيع نزع طفولتي مني. اتركوني أدبر التواؤم الضروري بين طفولتي ومراحل نضجي. من فضلكم لا تضغطوا على الطفلة في داخلي التي تقاسمني حياتي.

***

هكذا جعلتك وأنت مكون مهم من مكونات طفولتي تعيش معي في واقعي المتغير. طورت صورتك الأصلية المحفورة في عقل الطفلة. سمحت لشعر رأسك بأن يخف سنة بعد سنة. تركت وزنك يزيد ولكن إلى حد يتناسب مع مزاجي في الرجال. تراءى لي ذات يوم أنك شكوت من آلام في الظهر مثل معظم من يعمل في مهنتك من الرجال. أضفت إلى حسابات الألم ومرض الظهر ما ترامي لي وآلمني بشدة من أنك أصبت نفسك إصابة أحالت مرضك العادي إلى مرض مزمن. صورتك التي رسمتها لك في مخيلتي كانت تتحرك مع كل عيد ميلاد احتفلت به وكل عملية جراحية أجريتها وكل دور جديد تبنيته في عائلتك الضيقة ثم الواسعة. كنت حريصة كل الحرص على أن أراك في كل مرحلة من مراحل حياتك مناسبا لدورك في كل مرحلة من حياتي. كنت دائما الشخص نفسه، أستطيع أن أتعرف عليك بين ألف شخص أو بين مليون.

هل فهمت يا حبيب الطفولة وشريك حياتي لماذا أقول وأصر على قولي إنك لم تتغير ولن تتغير، بالنسبة لي، ولي وحدي.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version