طلال سلمان

لا حوار في بلد الحوار

بين الشعارات السياحية ذات البُعد السياسي، أو السياسية ذات البُعد السياحي، أن »لبنان هو بلد الحوار«،
لكن الحقيقة أن لا حوار في لبنان ولا مَن يتحاورون،
بحور الكلام بلا ضفاف، وشلالات التصريحات تصم بضجيجها الآذان، والمواجهات ولقاءات المصارعة الإذاعية والتلفزيونية والصحافية تكاد تطغى في تشويقها وإثارتها على المسلسلات المكسيكية و»فوازير رمضان«،
لكن لا حوار، ولا مَن يتحاورون،
قد يمكن تسميتها »مماحكات«، »مجادلات«، »منازلات« أو »جوقات زجل« يحتدم فيها الخلاف وتُشهر السيوف وتقفز الأحصنة فوق الكواكب ثم ينتهي الأمر بموعظة من »حكيم الفرقة« أو بانتهاء الوقت المخصص للبرنامج فتتم الدعوة لمتابعة »لقاء الجبابرة« في الحلقة المقبلة!
لا حوار داخل الحكم، ومع غياب الحوار ينتفي وجود المؤسسات الديموقراطية.
لا حوار بين الحكم ومعارضاته العديدة، الشرعية منها وغير الشرعية، التي من داخل النظام والتي من خارجه، ومع غياب مثل هذا الحوار أو تعطيله يصبح مشروعاً التساؤل عن الديموقراطية ذاتها، ومن ثم عن مؤسساتها،
ولا حوار طبعاً بين الحكم وشعبه الصابر، فأقنية الحوار معطلة إما بالغرائز الطائفية والمذهبية أو بالمصالح الذاتية أو بكليهما.
يمكن الاستطراد، طبعاً، إلى ما لا نهاية، فيقال مثلاً: إن لا حوار بين الطوائف، فإذا ما وقع شيء منه كان حواراً بين طائفيين، ولا حوار بين الأحزاب السياسية فإن تمّ لقاء ما تحوّل إما إلى ندب الماضي المجيد، وإما إلى مناسبة لإعلان الإفلاس والالتحاق بمن يملكون السلطة، ولا حوار بين النقابيين فإن أُجبروا عليه وقع الانشقاق وتحولت الحركة النقابية إلى لافتات حبرها أحمر ومضمونها أسود، وإلى شلل ضعيفة يراودها عن نفسها هذا الطرف النافذ أو ذاك من أطراف الحكم لتنضم إلى بلاطه لتحقق مطامح الكادحين كافة!
ربما لهذا تتزايد الدعوات إلى الحوار بوتيرة يومية، فتكاد تزيد على دعوات الإفطار!
ومع أن أطراف قمة السلطة لا يكفّون عن التلاقي، ويطمئن المواطنون إلى صحتهم دورياً عبر الصور التي تجمعهم سوية، فإن الحوار بينهم إن وقع يحتل صدور الصفحات الأولى من الصحف، وقد يتسبّب في »كسر« سعر الدولار ورفع سعر الليرة، أو بالعكس، وقد يمرّر ضريبة البنزين الجديدة أو يجهض »البلاغ الرقم 9«، وقد…
ثم إن بين مبرّرات الاهتمام الاعلامي الفائق إدراك الإعلاميين ان مثل هذا »الحوار« ما كان ليتم لولا إلحاح دمشق على طلبه ورعايتها لانعقاده وتحضيرها لجدول أعماله وحرص المعنيين على أن يظهر كل منهم انضباطه والتزامه بموجبات المواجهة القومية للخطر الإسرائيلي الداهم!
مرة واحدة »نشب« الحوار في مجلس الوزراء فتفجّر مجلس الوزراء أو كاد!
وفي المرات القليلة التي »شجر« فيها الحوار بين بعض النواب وبعض الحكومة في المجلس النيابي، كان الحوار ينتهي بانسحاب أحد المتصارعين، أو بانسحابهما معاً من هذه البؤرة الخطرة، وكان تجديد الثقة يجيء كخاتمة درامية لتلك الملهاة التلفزيونية رديئة الإعداد والتمثيل!
لو كان ثمة حوار داخل قمة السلطة لما انفجرت »حرب الرئيسين« بري والحريري التي بدأت بأرقام الموازنة وانتهت إلى مناقشة مدى التوازن الوطني في السياسات المعتمدة، وهي حرب مرشحة للامتداد حتى لو صفَّر »الحكم« الياس الهراوي معلناً وقف المباراة لأسباب أمنية!
لا حوار،
ولو كان ثمة حوار لكان مجلس الوزراء مؤسسة ديموقراطية أو شبه ديموقراطية تقوم بوصفها ائتلافاً بين قوى سياسية متعددة البرامج لكنها متوافقة على خطة عمل محددة تحقق مصالح الشرائح الاجتماعية التي تمثلها و»تحكم« باسمها،
لا حوار،
ولو كان ثمة حوار لكان مجلس النواب هو ضابط الإيقاع للحركة السياسية في لبنان، ينطق باسم الناس ويعبّر عن همومهم وتطلعاتهم، يناقش ويراقب ويحاسب، ولا ينتبه فجأة إلى تقارير أو جداول مرّ عليها الزمن في أدراجه، ليواجه بها الحكومة في لحظة احتدام الخلاف (لأسباب أخرى، معظمها غير معلن) بين رئيسها ورئيسه.
وكيف يمكن لنواب وصلت أكثريتهم من دون حوار مع ناخبيهم أن يتحولوا إلى »مجلس« أي إلى مؤسسة ديموقراطية ومنتدى للحوار السياسي بين الاتجاهات والتيارات والمصالح المختلفة، خصوصاً وأن هؤلاء النواب يتوزعون على »كتل« يقود كلاً منها رئيس أو وزير فيربطها بقمة السلطة، ويصبح الجميع مطالبين بالدفاع عن السلطة ظالمة أو ظالمة… ولا يتبقّى ما يقدمونه »للشعب« الذي يمثلونه إلا التعازي لمن فقد عزيزاً، ثم الشكوى من تعب المشاركة في ذكرى »الأسبوع« و»الأربعين« على مدى محافظة بكاملها.
لا حوار،
حتى مع دمشق، لا ينتظم الحوار مؤسساتياً، بل يتخذ في الغالب الأعم منحى »المونولوج«: كلٌ يذهب بمفرده ليُسمع صوته ورأيه، ولا بأس إن هو سفَّه رأي شريكيه أو سائر الشركاء في السلطة المتحالفة إلى حد تبادل الاتهامات بالتفريط أو بالخروج عن الخط أو بنقض الالتزام بموجبات الأمن القومي ومتطلبات معركة المصير.
لا حوار: لا مع الذات، ولا مع الحليف، لا مع المواطن ولا مع »المؤسسة«،
لذا فلا بد من توقع الانفجارات، بين حين وآخر، في قلب السلطة، ولا بد من أن يدفع المواطن ثمنها من قوته اليومي، ثم يستأنف »البلد« مسيرته نحو »الازدهار« متخوفاً ومتحسباً من الانفجار التالي!
لا حوار، فالحوار يكون بين مختلفين،
ومَن في قمة السلطة أضعف من أن يختلفوا فكيف بأن يتفقوا؟!
والمواطن يحفظ أسماء جميع الذين رفعهم »الاتفاق« إلى مناصب عليا، ومعظمهم مزوِّر أو متهم في ذمته المالية أو مطعون في كفاءته المهنية،
وقديماً قيل: »اختلاف الأئمة رحمة للأمة«.. أما اتفاقهم فهو »نقمة«!
أما لبنان فلا يعرف إلا »النقمة« في الحالين!

Exit mobile version