طلال سلمان

لاستمتاع لحظة.. حوار له ما يبرره

جلستا على حافة النافورة المنتصبة في قلب الميدان الشهير. الشمس تظهر لحظة وتغيب. هما هناك في هذا المكان وفي هذه الساعة من أجل هذه اللحظات، ففي مثل هذا البرد تعلو قيمة اللحظة التي تسحب فيها سحابة ذيولها كاشفة عن مساحة فراغ زرقاء سرعان ما تهرع إليها الشمس لتطل على الدنيا بالنور والدفء قبل أن تصل طلائع سحابة أخرى. هي لحظة وإن طالت. أمسكتا بكوبي القهوة ينفلت من غطائيهما بخار ناعم بينما تتناثر أوراق الورد الأحمر هنا وهناك. وفوق سطح مياه البحيرة تسبح راقصة أوراق أخرى من نفس هذا الورد. وفي الساحة تتطاير بكسل وما يشبه الملل بالونات فقدت قوتها وعزمها بعد ليلة عمل طويلة.
تلتقيان بعد غياب. اختارت واحدة أن تطل على الميدان وعلى نساء تمددن في انتظار طلة شمس وفضلت الأخرى منظر النافورة وبحيرتها وأوراق الورد والبالونات والبطات السابحات على سطحها.

***

أتدركين فداحة الخسارة، خسارة أن تفوتك لحظة استمتاع؟ هكذا بادرت إحداهما بالحديث فيما صار بعد قليل حوارا. أضافت قائلة: أنا شخصيا أحاول بكل استماتة ألا تضيع مني لحظة يمكن أن أحصل فيها على قدر من الاستمتاع. وإن واتتني اللحظة أمسكت بتلابيبها حتى أحصل على نصيبي منها كاملا. ستقولين ليس كل لحظات الاستمتاع تستحق جهودي المستميتة، وأن لحظة أفقدها ستعقبها لحظات تعوض فقدها، أو تقولين لا خيبة أمل كبيرة من لحظة واتتني ولم أحصل فيها إلا على بعض نصيبي ففي لحظة قادمة سوف أستكمل هذا النصيب. لا يا صديقتي. ما يفوتني في لحظة لن أجده في لحظة أخرى.
راحت تشرح: “أنا في لحظة قادمة لن أكون أنا التي كانت في لحظة الأمس. أنا بنت اللحظة، مهيأة لهذه اللحظة وليس للحظة قادمة لا أعرف متى تأتي وأين تأتي. قد تتشابه الظروف ولكنها لن تتكرر. قد يتشابه الأشخاص ولكن ليس كل شخص نسخة من الآخر. نكون أحيانا في غمرة الاستمتاع بنقاش وينقطع لسبب أو آخر. ثقي أن استئناف النقاش بعد انقطاع لن يعني بالضرورة اتصال الاستمتاع واستكمال اللحظة. حماستي أو حماسة خصمي قد تبرد، بروده أو هدوءه قد يعتدل. المؤكد أن تسلسل الإقناع لن يحتفظ بحلقاته التي جئت بها معي لحوار اللحظة الأولى. لن أكون نفس الأنا التي استعدت للحظة استمتاع بمزاج معين وحضور معين ولباس معين. اللحظة القادمة قد تكون ممتعة أو حتى أكثر إمتاعا ولكنها بالتأكيد مختلفة، وبالتأكيد لن تستكمل ما بدأ في اللحظة التي انقطعت. تعرفينني جيدا. أريد اللحظة ممتعة ومكتملة، وأريد اللحظة القادمة ممتعة ومكتملة”.

***

أحس بك كالعهد معك. تدخلت صديقتها مقاطعة بمحبة وبصوت لم يزعج فرد البط الذي ارتاح إلى هذا الركن من البحيرة مطمئنا وآمنا لامرأتين تتحاوران في سكينة وسلام. كوب القهوة في يدها، وعيناها على سحابة تزحف لتغطي قرص الشمس وتزهق لحظة استمتاع. لم تلتفت نحو صديقتها وراحت تواصل ما بدأت به. قالت “لم تتغيري يا أعز المخلوقات وأقربهن إلى قلبي. طول عمرك يلازمك الألم ولا تعترفين. حتى وأنت تعيشين لحظة استمتاع. كنت قريبة منك في كثير من لحظات استمتاعك. رأيتك في قمة سعادتك ولكني رأيت أيضا الألم يطل من أناملك. رأيت حروفك تذوب في رحيق استمتاعك قبل أن تخرج كلمات متقطعة ومتقاطعة ولكني لمحت الألم يزحف خانقا ومعذبا. هل هو خوفك على اللحظة أن تنتهي؟ كنت دائما تحلمين بسعادة لا تتوقف بل ولا تهدأ. تحلمين بلحظة استمتاع طويلة لا تنقطع أو تبرد، لا تأمنين لتقلبات الزمن والناس وتقلباتك أنت نفسك. لحظة الاستمتاع كانت دائما مرساك في بحرك الهائج”.

***

التقطت الأولى دفة الحديث من حيث تركتها صديقتها. قالت “كل ما ذكرتيه صحيح. أنت فعلا تعرفينني أكثر مما أعرف نفسي. أتيت على ذكر الألم وهذا ما لا أنكره ولا أحد يمارس هواية الاستمتاع باللحظة إلا ويعرف ألا متعة بدون ألم. عزيزتي، لكل استمتاع نهاية، يعني: فراق، وفي الفراق ألم. تذكرين حوارنا عن الزمن؟ أليست علاقة كل البشر بالزمن حادة وقاسية وشديدة الانضباط رغم نزوعنا الدائم إلى التمرد؟ هل يوجد انضباط أكثر من انضباط تداول النهار والليل؟ اليوم يوم ولن يكون أطول أو أقصر. الساعة ساعة لن تزيد دقيقة ولن تنقص ثانية. كذلك اللحظة يا صديقتي، اللحظة لحظة مهما طالت وفراقها واقع لا شك فيه.”

***

سكتتا لتعود الصديقة التي اختارت أن تواجه في جلستها البحيرة إلى الحديث بعد أن قضت لحظة استمتاع مع الرشفة الأخيرة من قهوتها. قالت إن هناك اعتقادا بأن لحظة الاستمتاع لأنها قصيرة ولأنها قد تسبب ألما فلا يجب أن تحظى باهتمامنا إلى هذا الحد. اللحظة هى وضع انتقالي بين حالة وحالة أخرى. في الوقت نفسه هناك من يعتقدون، وعلى رأسهم سقراط، أن الإنسان يعيش من أجل لحظة استمتاع. الاستمتاع في حد ذاته أحد طيبات هذه الحياة الدنيا، وهو يأتينا في شكل جرعات أو لحظات. نحن نلعب مع الأطفال باستمتاع شديد للحظة ولا نلعب معهم طول الوقت. يتطرف فلاسفة آخرون فيقول أحد تلاميذ سقراط: إن السعادة المتولدة عن لحظة عابرة أهم كثيرا من لحظات يخطط لها لتكون أطول وأكثر متعة، كان أرسطو يسميها سعادة طويلة الأجل. تلميذ سقراط واسمه أريستبوس كان يقول إن “فن الحياة يتلخص في كفاءة الاستمتاع باللذات خلال مرورها”. دعينا من تلاميذ سقراط لنقرر بأنفسنا. لو تمكن منك الجوع الشديد ومررت أمام محل معروف بأنه يقدم شطائر الهامبورجر الشهية للغاية. هل تنتهزين الفرصة فتتناولين شطيرته اللذيذة وتستمتعين بها على الفور أم تقضين بعض الوقت تخططين لعشاء مطول متعدد الأطباق والألوان. أيهما أكثر امتاعا شطيرة اللحظة أم عشاء مؤجل”.
تقول صاحبة المبادرة في فتح الحوار إن الإجابة ليست سهلة كما قد يبدو للبعض. فالتخلي عن الفرص العابرة يحتاج إلى قدرة كبيرة في التحكم في النفس. يحتاج أيضا إلى تدريب وتنفيذ النصائح ومنها نصيحة ألا تسلم إرادتك طويلا لرغبة بعينها. لا تدعي نفسك تصير عبدا دائما لشهوة بعينها فتقضي حياتك في انتظار لحظات استمتاع عابرة تشبعها. تذكري أن اللحظات العابرة عابرة بالفعل يعني غير مأمونة ولا مضمونة. تذكري أيضا بداية حوارنا حين توافقنا على أن في كل لحظة استمتاع ألم. هناك من يدعو إلى تحاشي الألم بتحاشي اللحظات العابرة. أنا مختلفة مع هؤلاء وبخاصة مع الفيلسوف بوقراط الداعي دوما إلى تحاشي الألم كسبيل إلى حياة هادئة. هدوء طويل الأمد يعني سعادة طويلة الأمد. أنا ضد هذا الكلام. ما يدعون إليه أشبه ما يكون براحة الندم أو راحة الموت. لن يقنعني أحد بأن سعادة الإنسان في موته. أنت عندما تمتنعين عن لحظات الاستمتاع بعذر الخوف من الألم، وعندما ترفضين كل فرصة لتجربة جديدة خوفا من الألم أو الندم، وأنت إذا اخترت الهدوء المطبق، فأنت إنسان يمشي كالنائم أو إنسان ميت.

***

عزيزتي: لا تنفعلي. الأمر فعلا غير محسوم. هكذا عادت صديقتها تتحدث مستمدة طاقة نقاش جديدة من قطعة حلوى وجدتها في حقيبتها. قالت إن كثيرين مثل شوبنهاور يرون أن استمتاعا لا يبقى بعد انقضاء اللحظة لا يستحق أن يبذل في سبيله جهد أو يسعى إليه إنسان. متعة ينتهي مفعولها بانتهاء اللحظة حكمها حكم حلم تحلمينه ويختفي باستيقاظك. أنت لا تبذلين جهدا لتحلمي، كذلك أنت لا يجب أن تبذلي جهدا من أجل متعة لا يبقى أثرها بعد انتهاء اللحظة العابرة.
ما أحلى ولكن ما أقسى لحظات الاستمتاع. تعرفين أن لحظة الاستمتاع شخصية جدا. يكون الإنسان خلالها شديد الأنانية وفي الغالب لا يدخل آخرين في حساب اللحظة. إنها اللحظة الوحيدة التي يتعرف الإنسان فيها على خصوصيته وفرديته. ساعتها، أقصد لحظتها، يعيش منبت الصلة بأي شخص أو شيء خارج اللحظة.
الأصل في الاستمتاع أنه عابر. نحن نستمتع بظواهر وأمور لكونها ليست دائمة. استمتعنا هذا الصباح معا برحيق القهوة وبمنظر قوس قزح وبرائحة زهرتين أهديتا لنا من شابين مهذبين جلسا بجانبنا في رحلة القطار هذا الصباح وبغروب الشمس قبل أن نغادر الشاطئ أول أمس، كلها ليست دائمة. لا تنسي أن اللحظات السعيدة تبقى محطات فارقة في حياتنا ولكنها وحدها لا تصنع حياة سعيدة.

***

دعينا نتفق، قالتاها الاثنتان في نفس واحد. دعينا نتفق على أن لحظات الاستمتاع التي مررنا بها ميزتنا عن الآخرين. علمتنا كيف نتمرد على المألوف، على العادي، على الدائم. لحظات الاستمتاع العابرة حررتنا من قيود الروتين اليومي، حررتنا من قمع السلطة التي تخشى بطبيعتها وتركيبها اللحظات العابرة المتمردة على الأصول والقواعد والأوامر. قناعتنا ثابتة منذ قررنا عدم تفويت لحظات استمتاع تلخصها الحقيقة التالية “إننا وأمثالنا حققنا مساحة حياة أوسع وأغنى أضفناها إلى حياتنا المقررة علينا”.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version