طلال سلمان

كيف دام حكم التعددية الطوائفية في لبنان قرناً قبل الإنتفاضة؟

لم تحُل معارضة الزعماء العروبيين في لبنان دون إقدام الجنرال الفرنسي غورو في الأول من أيلول/ سبتمبر 1920، وهو على رأس ادارة الإنتداب الفرنسي على إعلان قيام دولة لبنان الكبير، تلبية لرغبة بابوية هدفها تمكين الكنيسة المارونية من رعاية بناء كيان لدولة تستقل فيها عن حكم التيارات القومية والإسلامية في سوريا الكبرى. دولة تضمن في تركيبها الطوائفي شرعية استمرار الحضور الكولونيالي الفرنسي في لبنان والمشرق.

لقد صدر اول دستور لدولة لبنان الكبير عام 1926 بصياغة علمانية مقتبسة في ظل ادارة الانتداب الفرنسي.
وعُدلت مواده لتتناسب مع استقلال الدولة عام 1943 وأُضيفت الى تشريعه المقتبس مقدمة وتعديلات، بموجب القانون الدستوري الصادر في 21/9/1990 تُحصّن الليبرالية الطوائفية للكيان ووظائفها الداخلية والخارجية.

ابرز التعديلات المُضافة على الدستور بعد الاستقلال في العام 1943، ما ينصّ على الآتي:

ـ في المادة 10 منه على حقوق الطوائف “إنشاء مدارسها الخاصة”.

ـ وفي المادة 19 منه “لرؤساء الطوائف المعترف بها قانوناً في ما يتعلق حصراً بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني”.

أما أبرز التعديلات على الدستور بعد إتفاق الطائف، ما نصت المادة 22 منه، والمعدلة بموجب القانون الدستوري 21/9/1990، على انه “مع انتخاب أول مجلس نواب على اساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية”.

ـ أما المادة 24 المعدلة بالقانون الدستوري ذاته (1990) فقد نصت على الآتي: “توزع المقاعد النيابية وفقاً للقواعد الآتية:

أ ـ بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين.

ب ـ نسبياً بين طوائف كل من الفئتين.

ج ـ نسبيياً بين المناطق”.

ونصت المادة 27 المعدّلة بالقانون الدستوري ذاته على ان “عضو المجلس النيابي يُمثل الأمة جمعاء ولا يجوز ان تُربط وكالته بقيد او شرط من قبل منتخبيه”.

وأُقرّ في ظل الدستور ميثاق قُسّمت بموجبه رئاسات السلطات الدستورية الثلاث ووظائف الدرجة الأولى المقررة في الدولة وحُصّنت بموجبه الكيانات السياسية للطوائف وعُمّدت في الدستور بلغة زعمائها وأحباره تحت اسم “عائلات روحية” وضُمنت لمراجع هذه الطوائف التي لم تكن احجامها آنذاك تتجاوز بضع مئات أو حتى عشرات من الآلاف وفق أول إحصاء أجرته إدارة الإنتداب الفرنسي عام 1932، صلاحيات ادارة الاحوال الشخصية لجماهيرها والنطق باسمها. وكانت محدودية هذه الأحجام تُغري نخبها لتأطير عوامها وتوجيه ولاءاتها بما يسهل استقطابها المذهبي السياسي وتوريثه.

ترسخ الليبرالية الطرفية

لقد تكيّفت خصائص وظروف تشكل المجتمع اللبناني مع تعدد أهواء زعامات طوائفه وتكيفاتهم المرتبطة بالمصالح السياسية الإقليمية. وظلّت هذه المصالح والخيارات تؤثر في تشكيل وتوجهات حكوماته المتعاقبة على امتداد ثلاثة عقود وفي تحصين صمود الكيان السياسي القائم على القبول المتبادل لتمثيل زعامات الطوائف حتى في ظروف تعذر إنعقاد جلساتها خلال الحرب الأهلية المستديمة وبعدها. وكان قد مهّد لرسوخ هذا القبول المتبادل داخل هذه الحكومات ترسخ نهج الليبرالية اللبنانية الطرفية الذي سبق وتوسعت في ظله الوساطة التجارية اللبنانية بين اسواق المشرق والخليج وبين الأسواق الأوروبية والعالمية.

واقترن هذا التوسع بترسخ التواصل الثقافي مع اسواقها ومجتمعاتها بازدهار الاقتصاد اللبناني وتحصين قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار، بحيث لم تتجاوز خلالها قيمة صرفه حدود الثلاث ليرات لبنانية. وقد عوّض هذا الإزدهار من خلال فوائض الموازين المالية عجوزات الموازين التجارية بفضل ما كان عليه مردود الصادرات الزراعية والصناعية والخدمات السياحية من عوائد إرتفعت مع ارتفاع سعر برميل النفط الخام السعودي من 3.5 دولارات عام 1970 إلى 12 دولاراً عام 1973. وقد اقترن هذا الارتفاع تحت تأثير الحظر العربي لتصدير النفط إلى الولايات المتحدة احتجاجاً على دعمها لإسرائيل وتواصل ارتفاع سعر البرميل بعده.

سياسة تحرير الأسواق

لقد واصل هذا النهج الليبرالي الطرفي ترسخه الى أواسط تسعينيات القرن الماضي، وفرض تحرير الأسواق وإعادة الهيكلة تكيُّفاً مع “تفاهم واشنطن”. وقادت هذه التدابير إلى تراجع في الإنتاج الصناعي والزراعي وإلى تراجع المنافسة في التصدير السلعي بالمقارنة مع إنتاج وتصدير الخدمات السياحية. وبرز هذا التراجع بعد عام 1990 خاصة في ظل ركود منافسة الصادرات الصناعية وفي ما تشكله نسبتها من اجمالي الناتج المحلي، فظلت نسبتها الى اجمالي الواردات السلعية بين عامي 2010 حتى عام 2016 لا تزيد عن 25%، حسب تقرير التنمية البشرية في العام 2016. وظلت نسبة الصادرات الصناعية من اجمالي السلع في حدود النصف. وادى ما سمي بسياسة تحرير الأسواق وانفلاتها منذ اواسط التسعينيات الى ارتفاع رهيب في لبنان خاصة للواردات الزراعية الى حوالي 4 اضعاف الصادرات الزراعية.

ولكن اذا كان قد شكّل النصف الثاني من السبعينيات منعطفاً إيجابياً بفعل توسع عوائد الدول الخليجية والعراق من النفط وتوسع طلباتها على الصادرات اللبنانية والخدمات السياحية، الاّ ان هذا المنعطف ما لبث ان تحول سلبياً بفعل اشتعال الحرب الداخلية ـ الخارجية في لبنان التي أعاقت استفادة أسواقه من القدرات الخليجية المستجدة، فكان أن تحول الطلب العربي المتوسع عن السوق والوساطة اللبنانيين إلى بلدان أخرى، إقليمية وبعيدة.

لقد جاءت الحرب (1975 ـ 1990) لتعوق قدرات العروض اللبنانية على منافسة الأسواق المتطورة في تلبية طلبات الخليجيين الذين لم يعُد لهم في الأسواق اللبنانية ما تعودوا عليه طيلة عقود من مزايا منافسة سبق وتميزت بـها خبرات اللبنانيين للتعامل مع عاداتهم وثقافة عيشهم وأذواقهم وميولهم المُعتادة لتمديد إقاماتهم لاسابيع في الفنادق الفخمة وبرامج لياليها وللتردُّد على مواقع التزلج والمقاهي الوثيرة وعلى سهرات الترف والطرب العربي في بيروت وجبل لبنان.

اقتصر الإصطياف بعد إنكفاء الخليجيين عن لبنان على عائلات بيروتية مع القليل من شبابها ممن باتوا يفضلون الإعتماد على المُكيِّفات لتحمل طقس بعض الليالي الحارة في بيروت. هكذا تغيرت الأيام والاسواق والأجيال التي كانت ترى في لبنان “سويسرا الشرق”. وتزايد تفاوت فرص نمو الموارد الاقتصادية والبشرية لا سيما بين العاصمة والأرياف النائية عنها، وادى هذا التفاوت مع توسع الحرب الأهلية الى تزايد موجات الهجرة ومنها خاصة هجرة خريجي الجامعات لتطال ما يقدر بحوالي ثلثهم.

أولوية الإنغلاق والتميزات

وتزامن تراجع العروض اللبنانية في ظل الحرب الأهلية الداخلية ـ الخارجية عن مواكبة ارتفاع متطلبات المنافسة في الأسواق العربية مع تعذُّر خروج النظام الطائفي اللبناني من أزماته السياسية البنيوية ومع تعزيز الولاءات والانتماءات المذهبية التي لم تعد قابلة للضبط كما تخيلها كل من الجنرال غورو والكنيسة المارونية.
هذه الولاءات المتجاوزة لحدود “لبنان الكبير” والتي باتت تعزز اولوية الهوية المذهبية وتصر على اعتبار أن في الهوية عهد ولاء يُنتظر من حاملها ومن عائلته إظهاره يوم الوفاء السياسي لمتزعميها. وهذا ما عزّز العمل بالمعايير التقليدية للإنتخاب تعصباً أو استتاراً بالمألوف أو تنفعاً لشرعنة التعصب المذهبي. هذه المعايير التي ظل يتواصل ترويجها منذ قيام دولة لبنان الكبير حتى وقعت الحرب الأهلية التي جاءت لتفرض ضرورات الانغلاق الطائفي للجماعات اللبنانية. واستعصى الخروج منها الاّ بعد توفر الظرف الإقليمي والدولي لفرض إتفاق الطائف المشرّع لاصلاح الحكم التحاصصي للكيان. اصلاح يُقيم “الوحدة الوطنية للبنان الكبير” ليس على دستور بل على ميثاق غير مكتوب متجدد يُقر لزعماء الطوائف الكبيرة بالفيتو من خارج التشريع.

وها هي حكومات “الوحدة الوطنية”، منذ ثلاثة عقود، تواصل الحكم بميثاق ما برح يُراكم عجوزاتها في إدارة الأزمات الإقتصادية والمالية والنقدية والخدمات العامة الأولية ومعها البيئية. وتثبت هذه الحكومات أكثر فأكثر أنها لا تعدو كونها رهينة توافق الدول الإقليمية المتعارضة الأهداف ليرتبط صمودها والحال هذه بمدى مسايرتها لسياسات هذه الدول. إنها الوحدة الوطنية التي يواصل أركانها تذكير الأحفاد بما توافق عليه الأجداد ولا سيما المسيحيين منهم وهم الأركان الأوائل الذين أسسوا تحت رعاية الكنيسة لقيام لبنان الكبير وأسسوا لزعاماتهم فيه أحزاباُ إنغلقت على حدود مناطقهم داخل حدود الكيان لتحصين تميُّزات لجماعاتهم تحققت في السياسة والثقافة ارتكزت في مناطقهم على تميزات في مجالات التعليم وفرتها المؤسسات الرهبانية اللبنانية وغير اللبنانية عملت في جبل لبنان وبيروت خاصة على امتداد قرن قبل اعلان الاستقلال عام 1943. وظل هاجس الحفاظ على تلك التميزات للاجتماع المسيحي يحكم توجهات زعماء الطائفة برعاية ممنهجة من الكنائس، وعلى رأسها الكنيسة المارونية ومدارسها مقترناً بهاجس النأي عن توسع التيارات القومية العروبية في لبنان خلال الستينيات والسبعينيات.

حقوق المسيحيين

وهنا، يجدر التذكير بان حرص الكنائس على تراكم التميزات المشار اليها اعلاه في اوساط اتباعها لم يحُل، لا قبل الحرب الأهلية ولا بعدها، دون توسع هجراتهم كما في اوساط واسعة من المسلمين في مختلف طوائفهم. ان هجرات المسيحيين جعلت نسبة ما يشكلونه من اجمالي المسجلين في لبنان تتراجع من حوالي النصف الى حوالي الثلث، ولا تعوّض عن هذا النزف المتواصل التعبئآت العصبوية المعمّمة احياناً في مدن المهاجر حيث تتولى تُنظيمها فروع احزاب طائفة ما ضد فروع احزاب أخرى او ضد فروع لأحزاب في طوائف اخرى.

وتُختزل ازمات النظام السياسي اللبناني المتراكمة منذ ما قبل الاستقلال وبعده الى مجرد مصارعات ظرفية على المواقع السلطوية في الوطن تناصرها الكنيسة او تتألم من مخاطرها تعمل يوميا لغسل القلوب بين زعماء طائفتها وتُبارك التعايش مع الطوائف الاخرى المتكيفة اضطراراً مع زعاماتها المحتكرة لتوزيع حصتها من المالية العامة وتعيينات وخدمات الادارة.

لقد مرّت على الكنيسة اهوال الحروب والهجرات التي تتواصل معها خسارتها لمجد لبنان الذي “أُعطي لها”.
هذا المجد الذي تقبّله وبارك لها به غالبا مراجع كبار في الطوائف الاسلامية غداة اعلان “دولة لبنانها الكبير”. ولكنها عادت مع الأسف لتُعير مجدها الى أحد المُفتين الموظفين المتجرئين على العمل لسحب مشروع قانون اُقر في مجلس الوزراء يوماً لتشريع الزواج المدني في “لبنان الكبير” ولم تُعره لإلغاء الطائفية السياسية التي يستثمرها صغار زعماء المسيحيين.

كذلك، تواصل الكنيسة التنازل عن مجد أُعطي لها ولا تتوقف عن التذكير بحماية مبدأ المناصفة ولم تُقر بعد بان مثل هذه المطالب لا يستفيد منها غير ازلام الزعماء المسيحيين وان المسيحيين لديهم ما يفاخرون به ولا تُحمى حقوقهم الاّ بكفاءاتهم المشهود لها الأمس واليوم وليس بمجرد تعهدات الزعامات الاسلامية بتجاوز معيار العدد.

ان كل اقلية مهما ضمرت احجامها تتحصّن بمقدار تمتع قادتها بقدرات مميزة لقيادة مكونات البلاد مجتمعة الى سلطة ارقى ومستقبل افضل. وقد ثبُت في الكثير من البلدان، سواء في لبنان، أم في الهند دولة الثلاثماية وخمسين إتنية، ان المجد يُعطى لنخب الجماعة الاقدر على تفهم ضعف الجماعات الأخرى. وان دور القيادة السياسية للطوائف اللبنانية قبل احداث 1958 لطالما كان معترفاً به للنخب المسيحية. وان إنتفاضة متزعمي ونخب الطوائف الاسلامية بدعم ناصري حينذاك لم تنته الى أكثر من تقاسم بين زعماء مدعومين اقليمياً يتحاصصون موارد الدولة ولا يفوتون جهداً لإحياء الطقوس المذهبية لجمهور عوامهم ولا يجهدون لتلبية مطالب لغير مفاتيح ناخبيهم.

(*) أستاذ جامعي، لبنان.

ينشر بالتزامن مع موقع 180

Exit mobile version