طلال سلمان

كن شجاعاً … وقل وداعاً

كيف أقول وداعاً؟ لمن ألوّح بيدي مغادراً؟ كيف أُسكت قلبي عن النطق؟ كل ما عشت من أجله كان جميلاً ونبيلاً وانسانياً. لم أكن ابداً على الشرفة متفرجاً أو متأملاً، كما لم أكن سائحاً. انغمست بالأمل في كل الأمكنة والقضايا حتى عتبة الشيخوخة… لم أكن أدرك أن كل ما حلمت به وحملته في عقلي وقلبي، وكل ما تمنيته إدمانا على التفاؤل، قد خسرته مراراً وبات هباء ولا يستحق الندم.

ها أنذا اعتصر زمني بين يدي. ها أنذا أعلن ركامي. أخطأت واستحق عقوبة تفاؤلي وخياراتي الخرافية، بالحرية والعدالة والمساواة والعيش الكريم، تستحق الشفقة. أفدحها، لا وطن لي. خلفي ركام شاهق من الفشل وامامي عماء. ما كنت سأكونه، لم أكنه ابداً. أمة من دخان وركام. أمة عن بكرة ابيها، شعوب من سلالات عريقة، بعثرتها نضالات غلط وآلام مجانية ودماء ركامية… قضايا مستحقة لكل أمة، كلها، كانت ضحية كفاح بلا أفق. كفاح خاضته بطريقة الارتجال والمزايدة. تطلق النار على العدو، ولا تصيب إلا الأخوة الأعداء. زاغت طلقاتها عن الأعداء الحقيقيين، أعداء الخارج والداخل. إنها خسائرنا، نحن أنجبناها. فكرنا الهش أبوها، ويومياتنا الدامية روزنامة تراجعاتنا.

لذلك: تجرأ وتشاءم. نعم، تجرأ واحكم على نفسك بالفشل المتعمد. العدو، أو الأعداء، لكنت تكون كفيلا بهم، لو لم تكن معتلاً فكراً وعقيدة ودينا، ولو لم تكن مستأسداً على شقيقك الذي يشبهك، كما هو مفترض. غلَّبت الانتقام الداخلي على الصراع من أجل الحرية والديموقراطية والعدالة والعيش بعرق الجبين… لقد عانينا من احتلالين باهظين: احتلال خارجي بصفوف مرصوصة، واحتلال داخلي بقوى وصفوف متعادية. كنا نستحق الخسائر، لا شفاعة لأحد. كلهم مذنبون ومتخلفون إن لم نقل خونة على الأرجح.

كأننا ولدنا غلط، عمداً، أو عن سابق تصور وتصميم. رحم زنا سياسي دولي ومحلي. منذ ولادتنا، ولدنا أعداء حقيقيين. أخوة أعداء كنا، وأكملنا عهرنا السياسي. عوض أن نطلب المواطنة الكاملة، وهي حق مشروع وشرعي، تبرعنا واجتهدنا وأسرعنا إلى الحضن الطائفي، الحضن المذهبي، الحضن العرقي، الحضن العشائري… تفوقنا في العداء. كالأخوة الأعداء صرنا، كما صار بعضنا أصدقاء العدو. صرنا بدداً في جغرافيا شاءها الغرب الجشع ملعباً له برعاية جمهور من الرعايا. الغرب “الحضاري” المنافق شتت الجغرافيا كيانات. رسمها بومها، ثم زرعنا فيها، عائلات وعشائر وطوائف وعملاء. صارت “دولنا” هدية مسمومة. لبنان ليس، ولم يكن وطناً أبداً. شاؤوه ملجأ لخائفين وتائهين. هكذا ولد، وهكذا كان، وهكذا ظل حتى كاد أن يتلاشى مراراً. الملجأ، بوابته الخوف: خوف المسيحي من المسلم، خوف السني من الماروني والماروني من الدرزي والخوف الجماعي، في ما بعد، من الشيعي… لا تعجبوا لماذا نحن هكذا… هكذا ولدنا وشبينا وكبرنا وهرمنا، و”قاتلناهم وقاتلونا”… حاضرنا الراهن ليس بكراً. ما يشهده لبنان، نص مسرحي نتن، قرأناه مراراً.  تبّاً لنا.

ثم… وكما في لبنان، تم تمزيق الجغرافيا العربية وتفتيتها وتوزيعها. كل كيان لعائلة او لعشيرة او لملة او لعرق. لآل مارون في لبنان، بالاشتراك غير المتوازن مع السنة والمجحفة مع الشيعة … لآل هاشم الاردن، حتى الآن، والعراق، حتى انقلاب عبد الكريم قاسم. مع قاسم انتقل الإرث السياسي إلى الجيش. استبدل الاستبداد الملكي بالاستبداد العسكري. والأخير أكثر عتواً وتوحشاً. العراق ظل أسير البنادق والخنادق والسجون ومنصات الإعدام حتى اليوم. عاش بالدم منذ عقود، وقد يظل لعقود. لا شفاء للعراق من جنون المذهبية والعرقية والسياسات الانتحارية. سوريا-الشام، احبطت جريمة تقسيمها. دفعت ثمناً باهظاً حفاظاً على وحدتها بعد خسارة الإسكندرون وسواها. حكمتها العائلات المتوارثة منذ العثمانيين، إلى أن اندلعت القومية العربية رافعة راية الوحدة. قومية زاحفة بقيادة مصر الناصرية والأحزاب العلمانية، بنسبة عالية.

فشلت التجربة بسرعة البرق. خاضت ضد العدو حروباً ركيكة فخسرتها. خاضت حروبها الأخوية فتهاوت الوحدة وترسخت الكيانية – القطرية الموروثة من توقيع الاستعمار لخرائطه. ويا للصدف الانتحارية. ورث العسكر الحكم، وما أدراك ما العسكر في الحكم… الجزمة أرقى من الرأس. الأمر لي وحدي والكل مأمور. لا شورى ولا دستور ولا قوانين. جدران السجون تشهد على فداحة العسكر. وكان ما كان: ضاع العراق. غرقت سوريا بدمائها. ولبنان بات في قعر لا قعر له، أما الأردن، فهو الشقيق التوأم، لإسرائيل العبرية.

تجرأ أكثر واستعمل اللعنات. كن سخياً بها ولا تخجل. لا نملك نحن العراة. سوى قبضاتنا في الهواء ولساننا في العواء. تجرأ واشتم. هذا حظك الباقي في النضال. علماً، أن الشتائم في لبنان، يتلقاها المسؤولون، كأنها مدائح. لا يردون. بلطوا البحر. قولوا ما تشاؤون وسنعمل ما نشاء.

فلنوسع الحلقة: هل ممالك الخليج بخير؟ البترول والنفط والثروة، لا تبني دولاً. بنت ممالك مملوكة من فوق لتحت – لا وجود لشعب هناك أبداً. هناك رعايا، يسيرون بخشية وصمت، ولا ينطقون إلا بما يصدر عن وسائل اعلامهم التي تشبه أيام “الدكتلو”، في زمن المكتب الثاني الشهابي. هل نسمي تلك الممالك الغنية والشقية معاً؟ ثم ماذا عن ثرواتها؟ انها ليست لها. ليست لها ابداً. إنهم وكلاء على أموالهم التي تصرف وفق جداول مهمة تعود بالريع على الأقوى. ثم ما هذه الحروب التي تتبناها وتخوضها. هل يستحق اليمن هذا الغضب الخليجي؟ أما كان بالإمكان الاستقلال قليلاً عن واشنطن، فدخلتم معها حروباً خليجية طاحنة في إيران وفي العراق… فلسطين ليست بعيدة، وما كانت تلقى غير الفتات…

لا شفاء لهذا الخليج. منذ ولادته وهو تحت الإمرة الأميركية. لم يشب بعد… وهو يدفع الثمن غالياً وبالعملة الصعبة… وهذا لا يكشف عن عدد الفقراء والمعوزين … بلاد سائبة.

تجرأ واغضب. مصر العريقة أين هي؟ ماذا حل بها؟ كانت قاطرة النهضة والنهوض. خسرت كل الفرص. بلاد بلا حريات، لا يمكن أن ننجو من الثورات والانتفاضات. الناصرية الصاعدة بقيادة المشروع العربي القومي، سقطت بالضربة الإسرائيلية القاضية، لأن جيشها لم يكن للقتال، بل للقمع. القمع والتحرر نقيضان. الاتحاد السوفياتي العظيم. لم تسقطه حرب. أسقطته الحرية.

مصر اليوم، تعيش في الخفاء. القبضة الأمنية عمياء. لا صوت يعلو على السيسي. وما أدرانا ما السيسي؟ هناك من يهنئ مصر على رجاحة الأمن فيها. صح. هذا أمن مفروض بالقوة. أما الاقتصاد، فهو مدين لديون. اقتصاد الديون يقود إلى الإفلاس. اسألوا لبنان.

ماذا يُقال عن السودان؟ خزان العالم الروماني، خيراً وفيضاً. السودان الغني، أرضاً وماء وشعباً يجوع. الاستبداد أكل الأخضر واليابس. ولأنها وقعت على ركبتيها، قادتها اميركا إلى التسليم “بالسلام” مع “اسرائيل”، وهذا السلام لا يجلب سلاماً للسودان ابداً. ليبيا محذوفة من الوجود. هي خريطة محتلة من قوى إقليمية وعظمى. هل نزور الجزائر؟ ماذا نقول عن ثورة المليون شهيد، او ثورة المليونين. عشر سنوات من “الجهاد الاسلامي المرير”. عشر سنوات ممن حاربوا في أفغانستان مع الأميركان، ضد السوفيات، كمرتزقة، يقودهم “إيمانهم” إلى الوقوف إلى جانب اميركا، ثم محاربة النظام بعباءة عباس مدني… لا تسأل عن الحرية في الجزائر، ولا في أي دولة عربية.

أمة ودول وشعوب، قيد العذاب والتعذيب. قيد النحر والانتحار. كيانات مختلفة. تتشابه في تخلفها. من المحيط إلى الخليج، ثروات هائلة، شعوب مليونية (300 مليون عربي) لم يصيبوا إسرائيليا بمقتل. جراحهم الداخلية لا تُحصى. “إسرائيل”، الدولة التي أنشئت بقرار، نجحت وحدها، وسط هذا الركام الذي ولدته حروب الأخوة الأعداء… أين فلسطين؟ انها في الماضي. الحاضر ينكرها، والمستقبل يجهلها.

غلط. غلط. غلط. نحن الغلط الأول والأخير. وان لم نكن كذلك، فلماذا انضمت “اللائحة العربية” في “إسرائيل” لنتنياهو. هل نصرخ يا للعار! ابداً. سيأتينا الأفدح والأفظع. التطبيع بداية. تكوين محور اقليمي بقيادة “إسرائيل” لن يكون النهاية.

لكل هذه الأسباب. تشجع. تجرأ على التشاؤم. سمِّ الأشياء بأسمائها. قل: ماذا فعلت الديانات والمذاهب والممالك و…؟ لماذا أدمنَّا الانتحار؟ قل لهذه الأمة والشعوب وداعاً. بدءاً بلبنان وانتهاء بفلسطين.

إذا فلنودع هذه الحقبة المئوية، فلن يكون أمامنا، إلا شعوب تمشي يومياً في جنائزها… راجعوا الارتكابات. تأملوا الأديان التي جاءت كما قيل لخير البشر. أي شر فادح اجترحته. راجعوا المذاهب والطوائف. تأملوا جيداً، ماذا فعلت الطائفية والمذهبية في لبنان. ولا تنسوا ابداً الإرهاب الإسلامي المتعدد والرهيب.

يا إلهي… أنزلنا عن هذه الجلجلة.

هل تسمعنا؟

إن لا … دعنا نؤمن بالإنسان، الذي ألغته الأنظمة والعقائد والمذاهب والطوائف والأعراق… والدول التي ترفع كذباً، الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وتمارس القتل والاغتيال وتبارك “إسرائيل” صبحاً وظهرا ً ومساء .

قل إذن… اكفر بما عدا الإنسان.

Exit mobile version