طلال سلمان

كل شى هادئ في لبنان حتى انة لا حاجة لحكم او حكومة

كل شيء هادئ على »جبهة« لبنان، داخلياً وخارجياً، بحيث يمكن بقاء الحكم غائباً أو مغيباً ومشلولاً إلى ما شاء الله:
الحكومة التي أقالت نفسها غير مستقيلة تماماً، والحكومة البديلة التي يفترض أن يأتي بها التمديد، أو يؤتى بها لتغطية التمديد لم تتضح ملامحها بعد ولا يتوقع ابتداع الصيغة العبقرية العتيدة التي تشرك المعترضين بغير أن تُخرج المؤيدين، والتي تحفظ لرئيس الجمهورية الدور الذي يطلبه لنفسه من دون أن تستفز »المرشح الأساسي« لرئاسة الحكومة الذي لا يريد أن يكرر دور »رئيس حكومة مع وقف التنفيذ«.
في هذا الوقت كان مجلس الأمن الدولي يلتئم بأعضائه الخمسة عشر من حول لبنان الذي أُدخل إليه في »حالة طوارئ« عاجلة، ويتخذ قراره الشهير 1559، فارضاً نوعاً من الوصاية الدولية على هذا البلد الصغير، تكاد تُلزمه بالدخول في ثلاثة حروب معاً: ضد ذاته (بالتصدي لنزع سلاح »حزب الله« وكأنه مجرد ميليشيا خارجة على القانون) وضد الفلسطينيين فيه، ومع هذه وتلك حرب ثالثة ضد سوريا، تُخرجها من لبنان وتُخرجه منها فوراً وبلا إبطاء!
ثم كان أن التزم الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان بمنطوق القرار الدولي، فأصدر مع نهاية أيلول تقريره حول البلد الموضوع تحت الوصاية، فوصَّف حالته العامة، بالمخالفات والخروقات والارتكابات، تاركاً لمجلس الأمن أن يقرر ما يراه مناسباً لعلاج هذا البلد الصغير الذي يكاد يصنف »خارجاً على القانون«.
… كل ذلك ولم يجد الحكم ضرورة لانعقاد مجلس الوزراء لمناقشة الأمر، والاتفاق على »خطة« لمواجهة هذا التطور الخطير والذي يضيف إلى أسباب التوتر الداخلي عوامل متفجرة، تزيد من حدة الانقسام وتنقله من خانة السياسة بالاعتراض والمعارضة والنقد والاستنكاف الخ إلى »مواجهة« تنعكس على الموقف من الحكم سلباً، إذ تضعه داخلياً في موقع المختلف معه وعليه، والعاجز عن توحيد »الشعب« خلفه في لحظة الخطر، حيث يواجه محاكمة دولية قد تنتهي بتجديد مناخ الحرب الأهلية، ان اختلف اللبنانيون حولها فوجد فيها بعضهم فرصة للخلاص من الهيمنة السورية، بينما رأى فيها آخرون فرض وصاية دولية تتجاوز الطعن بأهلية الحكم فيه لتذهب بهوية لبنان وبسلامه الأهلي.
… ومع صدور تقرير أنان، كانت بيروت تتحنى بدماء مروان حمادة ومرافقيه، وإن كانت العناية الإلهية قد تدخلت فحفظت حياة هذا »الرمز« الذي يصلح عنواناً للتوافق والاعتدال والانفتاح على القوى جميعاً، بما يوطد السلم الأهلي في البلاد.
… هذا بينما أنحاء أخرى من لبنان تشهد حالات من الاضطراب الشديد الذي ينذر بانفجارات دموية لا يعرف مداها إلا الله: من مجدل عنجر وسائر البقاع الغربي الذي أخرج القهر أهاليه في منتصف الليل إلى الشارع بعدما أعادت إليهم »السلطة« ابنهم الذي أدانته »بالإرهاب الدولي« في صندوق.
… إلى سير الضنية وطرابلس وسائر الشمال حيث تطارد »السلطة« خلايا »الإرهاب الدولي« فلا تقبض غالباً إلا على مجاميع من الفقراء المقهورين والمضطهدين الذين لم يجدوا غير الله ملجأ فاعتصموا بمفهوم للدين قد لا يقرهم عليه كثيرون، لكنه كان قد وفر لهم الأمان الذي افتقدوه في دنياهم، في ظل سلطتهم الشرعية التي لما يخرجوا عليها..
… إلى المخيمات الفلسطينية التي تمور بالاضطراب في وتيرة تزداد حدة كلما اشتد عليهم ضغط اليأس من توفر حل عادل لقضيتهم في بلادهم، فلسطين، التي يذيب أرضها النهش المتمادي بمستعمرات المستوطنين المستقدمين من أربع رياح الدنيا، بينما يلتهم جدار الفصل العنصري ما يتبقى منها… أما »الفلسطينيون« فتتكفل باستئصالهم شباباً وأطفالاً ونساء وشيوخاً وبيوتاً وشجراً دبابات أرييل شارون وصواريخ طائراته الحربية والحملات العسكرية التأديبية التي لا تكاد تتوقف واحدة منها حتى تشن عليهم ثانية أشد وأقسى وأكثر دموية..
(هذا بغير ان نتوقف، مرة جديدة، أمام الأحوال المعيشية البائسة التي يفرض عليهم أن يختنقوا في ظلها، حيث يُمنع عليهم العمل والتملك وبناء القبور لموتاهم أو توسعة المدارس لتستوعب أبناءهم، وعليهم أن يبقوا مهما زادت أعدادهم محاصرين ومسجونين في تلك المخيمات، في ظروف غير إنسانية تستحيل معها الحياة)..
أما في السياسة فالوضع أكثر سوءاً لأن الانقسام السياسي بدأ، عشية التمديد ثم معه، يتخذ صيغاً طائفية، لم يخفف من حدتها إلا تصدي وليد جنبلاط »لقيادتها« بشعارات تحصرها داخل إطار المعارضة السياسية لحكم أو حاكم، يتبدى أحيانا وكأنه يستقوي بسوريا على معارضيه، ويحيل إلى القيادة السورية مشكلاته بدل أن يفيد منها كما هو مفروض لتدعيم حكم وطني قادر على الانجاز داخلياً، كما هو قادر على تدعيم أمنها وموقفها السياسي بالاجماع الوطني، وذلك على قاعدة تعزيز المصالح المشتركة، ومواجهة الضغوط الاجنبية بصلابة التوافق الوطني، بحيث لا يستطيع التدخل الدولي ان يجد منفذاً لفرض »وصاية« مستغلا جو الانقسام الذي بدأ يلامس الثوابت الوطنية في لبنان.
لقد أدخل جو الانقسام هذا لبنان في نفق مظلم.
مع ذلك فرئيس الجمهورية لا يلتقي رئيس الحكومة، ولا يحادثه ليستشيره، ولا يعلن »حالة طوارئ« سياسية، تشمل مجلس الوزراء والمجلس النيابي والقوى السياسية ذات الوزن في البلاد للنظر في المخاطر الجدية التي تتهدد »السلام الاهلي« في لبنان، كما علاقاته الاستراتيجية مع سوريا، المتهمة الآن بمصادرة قراره والهيمنة على ادارته وتعطيل ازدهاره لكي تنعش اقتصادها المتعب على حسابه.
واليوم بالذات سيطوف وزير الخارجية على رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ليلتقي كلاً منهما على حدة، في »مسعى« لجمعهما معا، ولو من اجل التشاور في كيفية مواجهة المفاعيل العملية لتقرير أنان حول تنفيذ القرار الدولي 1559، استباقاً لما قد يصدر عن مجلس الأمن بعد نظره في هذا التقرير يوم الخميس المقبل، كما يقدّر العارفون.
ان احترام مجلس الأمن والامين العام للامم المتحدة لا يلغي حقنا بإبداء رأينا في شؤوننا الداخلية او في علاقاتنا (التاريخية والجغرافية والسياسية والاقتصادية والامنية الخ) بسوريا، او في كيفية تعاملنا مع الفلسطينيين الذين جاء بهم

الاحتلال الاسرائيلي الى بلادنا ولم يأتوا برغبتهم، او لانهم فضّلوا لبنان على فلسطين.
وحده المستقيل من المسؤولية الوطنية يمكن أن يهمل التصدي لهذه المخاطر الداهمة التي تتهدد البلاد في وحدتها والشعب في أمنه فضلا عن رزقه.
وإذا كانت محاولة اغتيال »رمز السلم الاهلي« مروان حمادة إنذاراً أول، فإن التعامل مع هذه الجريمة باستخفاف لن يؤدي الا الى تبرئة المستفيد الاساسي منها، وهو إسرائيل، وجعل التهمة تطاول حليفنا الاستراتيجي او بعض »السلطة« التي قد يفترض معارضوها انها قد باتت تعتمد التخويف وسيلة لفرض هيبتها.
ومفهوم أن منفذي مثل هذه الجرائم لا يتركون وراءهم اثراً مادياً يدل عليهم، او انهم في الغالب الأعم يفيدون من مناخ سائد يساعد على توجيه أصابع الاتهام الى أعدائهم.
لكن اهداف هذه الجريمة تدل على مرتكبيها وعلى المستفيدين منها… وليس من مستفيد من نشر جو الحرب الاهلية في لبنان غير إسرائيل. فسوريا وبرغم كل ما استعر من الخلافات حول دورها اللبناني فإنها ما تزال أقوى فيه من أن تلجأ الى تفجير حرب أهلية لإبقائه في دائرة هيمنتها.
ثم إن اي قراءة دقيقة في مواقف الدول، كما عبر عنها ممثلوها في مجلس الأمن، او كما عبر عنها بعض السفراء »الكبار« في بيروت، تكشف مدى التركيز على تبرئة اسرائيل او استبعادها كطرف يستفيد من اضطراب الاوضاع في لبنان. يكفي كشاهد هذا التركيز على ضرورة »تصفية« حزب الله، بإسقاط مشروعية مقاومته بل وإنهاء علّة وجوده بالإصرار على أن إسرائيل قد خرجت من لبنان نهائيا، بينما طيرانها لا يزال يخرق حرمة إجوائه كل يوم، وبحريتها تحاصر سواحله ببوارجها وزوارقها الخفيفة ذات الصواريخ!
***
كل شيء هادئ على »جبهة« لبنان حتى كأنه لا حاجة لا لحكم ولا لحكومة، سواء أكانت قديمة أم جديدة.
وفي انتظار ان نكتشف حاجتنا الى حكومة لا بأس من تعكير صفو البال ببعض اليوميات الفلسطينية، او اليوميات العراقية او بهما معاً، فهي تشير بوضوح الى ما يدبر للمنطقة، ومنها لبنان المنقسم رأسه على ذاته، والمطمئن ساسته الى ضرورته للتوازن الدولي الذي يشكل القرار 1559 احدى دعاماته الكبرى.

Exit mobile version