طلال سلمان

كلنا نكذب وبعضنا يبدع فيه

كان من المشاهير. ذاع صيته في عوالم السياسة والعلوم والتجارة. اقتحموا غرفة نومه ذات فجر لاعتقاله، وجدوا فراشه مرتبا دليل أن أحدا لم يمسه. استفسر المحقق فأجابه بأنه ينام على الأرض. قال “هذا ما تعودت عليه منذ كنت أعمل في صباي راعيا للأغنام وقارئا للفلسفة وعاشقا للطبيعة”. قال في شهادات سابقة أنه التحق بواحدة من أهم جامعات أمريكا. اتضح في النهاية أن الرجل يكذب. لم يعمل يوما راعيا لأغنام ولم يقرأ كتابا واحدا في الفلسفة ولم يكن عاشقا للطبيعة. التحق فعلا بالجامعة ولكن لم يطل بقاؤه فيها، بل تردد أنه كاد يخرج منها مكبلا بالأغلال. ظل يكذب ويكذب ثم صار عظيما بين العظماء.

***

عاش رتشارد نيكسون حياته يكذب حتى ارتبط اسمه بالكذب، كان يكذب وهو رئيس لأمريكا حتى أن أخرجته من البيت الأبيض كذبة كانت الأكبر والأخطر بين كل كذباته. سمعنا عن مادوف الرجل الذي عرف كيف يستثمر كذبة عظمى فصار صاحبا لبلايين الدولارات وقابضا على مساحة هائلة من النفوذ السياسي والاقتصادي. يعد المدخرين بأن تعود لهم مدخراتهم مضاعفة في فترة وجيزة لا تصدق. إنها نفسها الكذبة التي أبدع في استخدامها مغامرون مصريون ودعمها أكثر من رجل دين وسياسة استفادوا هم أنفسهم من الكذبة وروجوا لها وانتهت بفضائح وقضايا. أما مادوف فقد ارتبطت نهايته بانفجار أزمة أقتصادية عالمية في عام 2007 كان له ولكاذبين آخرين من نوعه الدور الأكبرفي تفجيرها.
نعيش الآن عهد ترامب. الرجل الذي بدأ رئاسته بالكذب حين أعلن كذبا يوم تتويجه أن واشنطن لم تشهد في تاريخها حشودا تحتفل برئيسها الجديد في حجم الحشود التي وفدت من أجله. كذب أيضا في الحملة الانتخابية ولم نهتم وإن تسلينا. كان الظن أنه لن يفوز، وإن فاز فلن يكذب. فازالرجل وله في الحكم الآن ما يزيد عن مائة وخمسين يوما وما زال يكذب.

***

يبدأ الإنسان في الكذب وهو في الثانية من عمره. كانج لي الأستاذ في جامعة تورونتو يعتبر الكذب في هذا الوقت المبكر دليلا على أن الطفل بخير وأنه يسير على الطريق السليم نحو النضج. بمعنى آخر، وهو المعنى الذي لم يشر إليه الأستاذ، الطفل الذي يتجاوز عمره العام الثاني ولم يكذب يحتاج إلى اهتمام خاص ورقابة طبية. أذكر كيف أن الأهل والأقربين كانوا ينزعجون عند سماع أو ملاحظة الطفل يكذب كذبته الأولى. كم خادمة أو مربية عوقبت بذريعة أنها ولا شك من علمت الطفل أن يكذب أو شجعته. لا يعرف هؤلاء أن الطفل لم يكن في حاجة لمن يلقنه الكذب أويدربه عليه. الكذبة الأولى لكل انسان عندما يكتمل عامه الثاني هي شهادة من الطبيعة تعلن نهاية مرحلة البراءة. الكذبة الأولى هي كلمة السر للدخول في مجتمع البشر.

***

في عالم البشر كلهم يكذبون. دي باولو وبيللا أجريا دراسة على 147 شاب طلبوا من كل واحد من المشاركين أن يسجل على ورقة وعلى مدى أسبوع كامل عدد المرات التي كذب فيها في اليوم الواحد. كلهم بدون استثناء كذبوا ولو مرة واحدة كل يوم. كلنا نكذب، ولكن بعضنا يبدع فيه. كم قضينا من وقت نخطط لكذبة أو لنندم على ما جنينا بسببها أو لندفع ثمنها. كم مرة قتلنا الوقت بحل ألغاز أو كلمات متقاطعة وعندما تعقدت الحلول لجأنا في السر إلى الحلول الجاهزة لنستعين بها في اثبات براعتنا. كنا نكذب على أنفسنا. هل نسينا كم عدد المرات التي أخفينا فيها عن عمد وعن أنفسنا معلومات معينة حتى نتحمس لاختيار بديل ضد بدائل أخرى في قرار معين. كم تحمسنا لكسب ود رجال ونساء عن غير اقتناع، كم اهتمام أبديناه بزعيم لا يستحق أو بمطرب أحمق أو بشخص أهبل، كم ابتسامة رسمناها مقابل نكتة سخيفة، كم صلاة خرجت من شفاهنا لم تحمل طهر الصلاة، كم شخص قدسناه لم يكن في نظافة الصنم، كم ظلم رأينا وسكتنا أو بررنا. كنا في حقيقة الأمر نكذب على أنفسنا.

***

علمونا أن هناك في عالم الكذب كذبة بريئة وكذبة شريرة. سمعت من تدافع عن كذبها بالقول إنها بالكذب تحمي أشخاصا بعينهم من ألم أو ضرر لو عرفوا الحقيقة. من هؤلاء مثلا من لم يكتشف بعد إصابته بمرض أو رسوبه في امتحان أو تعرضه لخديعة أو خيانة. هنا قد يؤدي التصريح بالحقيقة إلى ما لا يحمد عقباه. بل أن هناك من علماء النفس من يعتقد في أهمية الكذب لتحقيق انجاز في مجال أو آخر. يعني مثلا إذا فشل الصدق وعجزت الأمانة عن تحقيق ما نريد، أو ما يجب علينا عمله، لماذا لا نكذب إذا كان الكذب يعوض عن عجز الصدق والأمانة. مثل هذا المنطق أشعل حروبا عالمية ويكاد يشعل اليوم حربا اقليمية. مثله يضع أمريكا في مرتبة الهزل والمسخ.
كثيرون يلجأون للكذب قبل أن يجربوا الصدق وقول الحقيقة. غريب أمر هؤلاء. فالمعروف أن قول الحقيقة لا يحتاج لجهد بينما الكذب مشقة وعذاب وتخطيط ولف ودوران. الغريب أيضا أننا وكل الناس نفترض أول شيئ أن المتحدث إلينا طفلا كان أو مراهقا أو شيخا، إنما يقول الحقيقة. لا نبدأ بتكذيب ما نسمع إلا اذا كان المتحدث قد اكتسب لنفسه سمعة الكاذب دائما وأبدا. أنا نفسي، وكثيرون أعرفهم، لا أبدأ بتصديق أي تغريدة يغردها دونالد ترامب. أتعامل معها أولا ككذبة ثم أعود إلى التحقق منها. هكذا أفعل مع كل من أعرف أنه بالسليقة يكذب معذورا أو مراوغا. العيش مع هؤلاء رحلة صعبة. صعب لأن الثقة في الآخر هي الأساس الصلب في أي علاقة اجتماعية. لا أتصور علاقة حب قائمة على الكذب. لا أتصور أيضا أن تنهض دولة أو مشروع أو حركة سياسية في مجتمعات حل الكذب فيها محل الحقيقة أي حيث الكل لا يثق في الكل.

***

قابلت من يرفض الانزعاج من اتساع ظاهرة الكذب. قالت “في بيتي الكل يكذب طول اليوم. هذا لا يريد إخراج كيس القمامة فيكذب، وهذه لا تريد أن تتوقف عن الهمس في الهاتف الذكي فتكذب، وهذا يتجنب تنفيذ الواجب المدرسي فيكذب، وآخر يتململ ويشكو تمهيدا ليخرج فيكذب، حتى أنا أتظاهر بالرضا والسعادة فأكذب”.

***

أخشى أن تصبح بعض مجتمعاتنا قريبا عاجزة عن التمييز بين الكذب والصدق وبين الزائف والحقيقي. نسمع كذبا فلا نبالي وحين نسمع صدقا لا نصدق ولا نحتفي.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version