طلال سلمان

كلمني عن السعادة!

قالت: علمتني الكثير. علمتني كيف أحبو. كانت يدك ممدودة دائما عندما تجاسرت وحاولت المشي. ما كنت أتجاسر لو لم تكن سبقت وعلمتني الوقوف على اثنتين. كنت أنت الاطمئنان حين كنت أنا التمرد على المألوف. هل همست في أذنك ذات مرة تواضعا واعترافا، أنك أنت من شكلني، أنت من حافظ على “لمعة” عقلي حتى أبدعت وأدخلت الدفء إلى قلبي حتى أحببت. كنت أنت من زرع الرضا عن نفسي في نفسي. معا، أنت وأنا، قاومنا غدر الزمن والبشر فبقي الرضا في نفسي متشبثا وعنيدا. هل تحب أن أسترسل فأذكرك. أنت لا تنسى ولكنك تنكر فضلك.


أجابها بأن تمهلي. لم نأت اليوم لنطفئ معا نار شوق. هذه المرة غبت غيابا طويلا. لا أشكو ولا أعاتب فكلانا بالمشاغل والهموم محاصر. يسعدني ما أسمعه عنك. أسمع قصص وفاء لصديقات وأصدقاء مرت بهم أزمات. قرأت رسائلك المنشورة عن الحب. هذا ما انتظرت منك أن تفعلي. هكذا يتضاعف رصيدك من السعادة. أنصحك وأنت في هذه المرحلة الجميلة من مراحل عمرك أن تنشغلي برعاية أسباب السعادة، وأن تحرصي على عدم إهمالها. تعرفين أن السعادة ليست إرثا يورث، أو كنزا ينتظر “المحظوظ”. للسعادة أسباب ومصادر ونوايا يجب أن تصقل وتنمى.


استطرد قائلا.. أحكي لك قليلا عن السعادة كما أفهمها. تسمعين ولا شك عن شباب ضاق ذرعا بسياسات الحجر، سياسات تقررت لمحاصرة فيروس تسلل إلى عقر دورنا ومكاتبنا وملاعبنا ومواقع لهونا، حتى كهوف الحب التي كانت تؤوينا ونحن صغار وتخفينا عن عيون المتطفلين تجرأ عليها وغزاها. نجح في أسابيع معدودة نجاحا لافتا. قضى على مئات الألوف من البشر. لم يتوقف عند حدود سياسية أو مستويات اجتماعية. نشر الفوضى وأوعز أن يبتعد الناس البعض منهم عن البعض الآخر. وجد الدعم عند من له مصلحة في تباعد البشر. لم يفهموا أن من طبيعة بنات وبني آدم الاختلاط والالتئام وليس التنافر والانفراط. كذلك لم يفهموا أن الانسان مخلوق متمرد بطبعه.

سكت قليلا قبل أن يستأنف من حيث توقف. أنا، مثل أغلب المواطنين، محكوم بالعزل والحجر واحترام المسافات الاجتماعية. أمس، شعرت بالحاجة الماسة إلى تجاوز بعض التعليمات الثانوية من أجل استعادة بعض كفاءتي العقلية والعاطفية بعد طول تقييد وحصار. خفت من الصدأ أكثر من خوفي من الفيروس. للفيروس مناعة تتصدى له أما الصدأ فلا مناعة ضد تفشيه في عقل إنسان. أقنعت نفسي بأنني أستطيع أن ألتزم روح السياسات والقانون قدر الإمكان. ركبت سيارتي ودرت بها في شوارع أقفرت من الناس، فالساعة لحظة إفطار. وصلت إلى مكان معروف بنظافته وحسن تخطيطه. وجدت نحو ثلاثين سيارة مطفأة الأنوار. لاحظت كيف احترمت السيارات قاعدة المسافة الاجتماعية فابتعدت الواحدة عن الأخرى مسافة لا تقل عن أربعة أمتار. حول السيارة اجتمع أربعة من الشباب من الجنسين، بعضهم افترش الأرض العشبية وآخرون اكتفوا بالجلوس داخل شنطة السيارة، جميعهم انهمكوا في تناول الإفطار في صمت لا يخلو من هيبة الإيمان. ثم قام منهم من قام لأداء فريضة الصلاة. لم أعرف أن سجادة صلاة صغيرة صارت جزءا من متاع السيارة الخاصة في بلدي، أم هى من لوازم هذا “البيكنيك” الرمضاني المبتكر خصيصا للتعايش مع الفيروس، إن كيد الشباب لعظيم.


سيدي، فهمت قصدك. شباب في ظروف تعيسة وبين حصر وحصار ودقائق معدودة استطاع أن ينتزع لنفسه لحظات سعادة. نعم، هذا صحيح ولكن ألا تشاركهم، وأقصد هؤلاء الشباب، الرأي بأنهم محرومون من سعادة دائمة يتمتع بها شباب أمريكا والسويد وهولندا ويمكن فنلندا أيضا. القيود تشل قدرات شبابنا، قيود يفرضها عليهم أهل البيت وقيود من أهل الدين وقيود من السياسيين وقيود، هي الأسوأ، موروثة من شبكة تقاليد متناقضة وفي الغالب مرتبكة يفرضها مجتمع حاول أن ينتقل من حالة حضارية إلى حالة حضارية أخرى، انتهى سعيه معلقا في موقع ما بين الحالتين، لا هو اقتلع نفسه تماما وعلى الإطلاق من الحالة الأولى ولا انغرس فعليا، ولو جزئيا، في الحالة الثانية.


تتحدثين عن سعادة دائمة وعن شباب أو شعب سعيد وشباب أو شعوب غير سعيدة. السعادة متعة شخصية جدا. القرية السعيدة والعائلة السعيدة والمملكة السعيدة لا توجد إلا في الأساطير والحواديت التي كانت تقصها علينا أم فاطمة خلال زياراتها الدورية لنا. يوجد ملك سعيد ولا توجد مملكة سعيدة. الفرد هو موضوع السعادة وبؤرتها وهدفها وقضيتها. يحدث الخلط المعتاد حين تنعكس سعادة الفرد على تصرفاته ومشاعره تجاه عائلته وجماعته وشعبه فيعتقد خطأ أن كلا منها في حد ذاتها كائن سعيد. أنا سعيد فأرى عائلتي سعيدة وأفراد مكتبي أيضا سعداء. هذا لا يعني في الحقيقة أنهم بالفعل سعداء. ثم أن السعادة موقوتة وفانية إن صح التعبير. أنا سعيد الآن. سعيد بالفوضى المرتبة في غرفة مكتبي، وسعيد بانتهائي من كتابة مقال الأسبوع، وسعيد بالقطعة الموسيقية التي أحسنت اختيارها لتناسب هذه اللحظة، وسعيد بوجودك معي في نفس الغرفة ونفس اللحظة. لا أفترض على الإطلاق أو بالضرورة أنك لا بد أن تكوني سعيدة. كثيرون يفترضون ولا ينتبهون فلا يلومون إلا أنفسهم.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version