طلال سلمان

كسرني هذا الرجل

صديقي ومعلمي

أذكر أنك سألتني ذات يوم قبل عشرين عاما عن سر السعادة المفاجئة التي شملتني فتبدل شكلي وتغير مظهري. قلت لي يومها عن طريق المديح أنني أبدو أطول مما كنت عليه قبل أسبوع. فرحت بانتباهك وسعدت بإطرائك. لم أصرح لك يومها بأن الكعب العالي الذي صرت أعتليه في جميع أحذيتي هو المسئول عن هذه الزيادة في الطول. لم أخبرك وقتها أن ما بدا لك تبدلا في الشكل وتغيرا في المظهر وتطورا في الملبس بما فيه الكعب العالي إنما جميعها من معالم حالة طارئة من سعادة حلت بفتاة لم يسبق لها أن مارست حالة مماثلة طوال سنوات مراهقتها وأوائل سنين شبابها.

 

سألتني أيضا إن كنت أستطيع أن أصف في عبارة موجزة مشاعري وقد رأيتها فائضة. استغربت تعبيرك فكان ردك أشد غرابة. قلت وقتها بالنص “أفهم أن تلتقي بشاب في مثل عمرك واقع في حبك منذ سنوات فتجدين نفسك تكادين تلقي بنفسك في أحضانه قبل أن ينطق بحرف. ولكن ما أراه أمامي يتجاوز ما حاولت تلخيصه في كلمات قليلة، أرى عيونا تحتضن رجلا لم أتعرف على تفاصيل وجهه وشفاها تتمتم باسم لم أتبينه بالوضوح الكافي..”.

قاطعتك لأستكمل بنفسي ما بدأت أنت في تخمينه عن رجل التقيته. قلت إنني لن أخيب خيالك الذي عرفناه دائما خصبا وفائرا. دعني أضيف بكل تواضع إلى ما تفضلت عبارة فصلتها تفصيلا بينما كنت تحدثني عن الزيادة في طولي وعن عيون تحتضن رجلا وعن شفاه تلتهم، آسفة أقصد، تتمتم باسمه. أما العبارة التي نطقت بها في وصف اللقاء الأول، فكانت “لقاء كارتطام الأجرام”، ما أن تلامست اليدان حتى وقع ما لن يفهمه أو يتوقعه غير المحبين. بل أرجو أن تسمح لي بمزيد من تجاوز في لغة الخطاب مع إنسان يكتب عن الحب والمحبين وعن دخائلهم وحساسياتهم ومبالغاتهم وأحلامهم. أتجاوز فأقول أن هذه اللحظة، لحظة التقاء اليدين لأول مرة قد تكون اللحظة الفاصلة بين عمرين، عمر يسبقها وعمر آخر يتلوها. عندها تذوب فروقات الزمن، هل نحسب ما فات أم نكتفي بما هو آت عندها أيضا يسقط المنطق وتنصهر قوى المقاومة. عندها يولد الحب ويعيش رضيعا تهون من أجل سلامته وصحته صعاب الأيام وسهر الليالي. كم ضحينا في حياتنا من أجل كبار وصغار يعنوننا في كثير وقليل. كم ضحينا من أجل طموحات في العمل ومن أجل أشياء ضرورية بأشياء تافهة. الآن وقد أصبح لدينا هذا الحب، هذا الرضيع الأول في حياتي الذي كلفنا عديد التضحيات، لم يعد لدينا من التضحيات الفائضة ما يمكن أن نقدمه له ولغيره من عظائم الأمور.

تزوجنا ومرت سنوات ورضيعنا لا يكبر. غريب أمره أو غريب أمرنا. الزوج الذي ركع ذات يوم ليؤكد أنه أقسم أمام أهل الخير أن شيئا أو أمرا أيا كان لن يجعله يحيد عما انتواه من حياة يتوسطها الحب ولا يفرق بين طرفيها أحد أو ظرف، هذا الرجل وقد صار زوجا اكتشف لنفسه بعد سنوات معدودة أن الحب الذي ربطنا هو نفسه الذي يفرق بيننا. لم يبق اكتشافه سرا ولم يعتبره أمرا خاصا بنا وليس شأنا عاما ليهتم به كل الخلق.

رضيعنا الأوحد صار الفسحة والمبرر. الفسحة والمبرر في آن ليمارس زوجي ما شاء له مزاجه أن يمارس، يمارسه بحرية وفي راحة نفسية ودون أن يضع في حساباته وزنا لمزاجي ووقتي وجسدي المنهك بعد يوم عمل شاق. حجته الحق الممنوح له بالعقيدة والعادات والرغبات. استخدم الحق بمنطق حق الوحش في فريسة وحق السلطان في جاريته وحق رب البيت في التهام القطعة الأفضل شكلا والأّذكى رائحة في صحن المشويات على مائدة الغذاء. باسم هذا الرضيع، باسم هذا الحب، صار يتحكم في ملبسي. إنها الغيرة يعترف بها بلا خجل. تعلمت وقت الطفولة والمراهقة، أن الغيرة ليست حكرا على النساء. حذروني من الوقوع في شراكها. قالوا عنها ما كنا نقرأه عن مصاصي الدماء. يشربون من دماء ضحاياهم حتى يسكرون ثم يتضورون في الليل ألما وعذابا فأنيابهم لا تكف عن عض أي رقبة يسوقها حظها إلى طريقهم، طريق الآلام والشرور.

قضى زوجي وبطل قصتي وقصص أخريات كثيرات، قضى الشهور الأخيرة من عمر حبنا يستغل حبي له في جهود متواصلة لإقناعي أن حقا من حقوقه كطرف ثان في هذه العلاقة الرائعة أن يحكي لي كل ليلة وبالتفصيل الهادف المزود بالصور والأفلام التوثيقية والتسجيلات الصوتية حكايات لا تنتهي، لا تنتهي عددا ولا تنتهي إلا ليبدأ غيرها، حكايات عن غزواته في ميدان معشر النساء. جربت حظي مع هذه اللعبة الجديدة في ملاعبي، وهي الحافلة بالألعاب وجميعها بالتأكيد أنعم وأظرف وأرق من ألعابه التي راح يزجها كل ليلة على مسامعي لغاية لم أستشفها في البداية. بعد شهور من ممارسة هذه المباراة تسرب الشك أنه يسعى لإثارة غيرتي. يحكي عنها مطمئنا إلى أن الحب سوف يزيد من قدرتي على التفهم ويمط في سعة طاقتي التسامح والتقبل عندي لما هو قادم. لم أفهم إلا بعد وقت غير قصير أنه كان يسعي إلى كسر إرادتي بعد أن يكون قد نجح في تفكيك أهم روابط علاقتنا وإرساء قواعد مختلفة لعلاقة جديدة تقوم بيننا. أراد، كما أتضح لي فيما بعد، أن يموت الرضيع. تخمد العواطف وتقوم الإرادة المشتركة المبنية على فهم مشترك لمصالح محددة مادية بشكل خاص ومنفعية بشكل عام. يعتمد نجاح المشروع من ناحيتي على ثراء شبكة علاقاتي الاجتماعية والسياسية ومن ناحيته على دهائه وتغلغل شبكة علاقاته في المسالك التحتية وجماعات العنف في المجتمع.

كسرني هذا الرجل. انكرست لا لأنني ضعيفة أو أقل ذكاء أو لأنني ساذجة أو لأنني كغيري من عامة النساء نجهل حقيقة جنس الرجال. أنا انكسرت لأنني استهنت بقوة الحب. كانت في يدي وبين أضلعي عاطفة كالسحر لها قوة الصخر. سمحت له بأن يستغلها لصالح إرادته البشعة بدلا من أن أستعملها أنا لكشف أساليبه وطرده في وقت مبكر من زواج أحلى أيامه كان يوم طلاقي.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version