الأخ العقيد معمر القذافي
قائد ثورة الفاتح
تحية عربية طيبة وبعد،
أخاطبك كصديق قديم بعد انقطاع طويل نتج عن قرارك الابتعاد عن العرب كلهم، قريبهم والبعيد، مرتحلاً باهتمامك إلى أفريقيا، متخلياً عن الموقع الذي عرفناك فأحببناك فيه »الأمين على القومية العربية« والذي رفعك إليه، في ما يشبه خطبة الوداع، الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في آخر زياراته لليبيا حيث كان يخرج لاحتضانه شعبها الطيب برجاله ونسائه وأطفاله جميعاً، توكيدا للانتماء القومي والتزاماً بموجباته.
أما المناسبة فهي ردك الانفعالي على كلام بعض »المراجع« في لبنان، وبينهم سياسيون ورجال دين وتنظيمات فئوية، حول قضية »الإمام المغيَّب« موسى الصدر ورفيقيه، والذي رأيت فيه تهديداً سافراً لشخصك ولموقعك يستحق أن تقابله بأقوى منه وأقسى فاخترت أن تعاقب لبنان بالدعوة لنقل القمة العربية العتيدة المقررة فيه، وبدأت تسعى مع بعض أصدقائك من القادة العرب لتحقيق هذا »الإنجاز« القومي الباهر!
وهكذا فإن الانفعال يكاد يتسبب لك ولنا جميعاً في مشكلة جديدة قد لا تكون لها درجة الحساسية ذاتها، لكن المرارة التي سيتجرعها اللبنانيون نتيجة لها ستبقى في ذاكرتهم أمداً طويلاً، بل وهي ستضيف إلى المشكلة الأولى أبعاداً وظلالاً سوداء ما كان أغناك وأغنانا عنها.
وأصارحك، أخ معمر (كما كنت تحب وكنا نحب أن نناديك) أن ردك العنيف على ما صدر من تصريحات في بيروت، كان أقرب إلى معالجة الخطأ الأول بخطأ ثان، قد يكون أخطر إذا ما انتبهنا إلى الظروف الدقيقة والبائسة التي يعيشها العرب، والتي ينظرون فيها ومعها إلى القمة باعتبارها محاولة قد تكون جادة لوقف التدهور الذي يتهددنا بكارثة قومية شاملة، على المستويات كافة، والعياذ بالله.
ذلك أنه ستبدو وكأنك أولاً قد عطلت »القمة« (بمعزل عن المتوقع منها، وهو لا يمكن أن يكون باهراً، ولكنه على بؤسه مطلوب وضروري ولا بديل منه)… وأنت أدرى منا كم تكلف التوافق على مبدأ »دورية« القمة، وعلى أهمية توفرها كمرجعية سياسية عربية تحد من الانفصاليات والقطريات والكيانيات والجهويات التي تكاد تذهب بآخر ما تبقى من روابط بين العرب، فضلاً عن قضاياهم الأساسية وفي الطليعة منها قضية فلسطين وحقوق شعبها فيها.
وستنشأ على الفور مقارنة ليست في صالحك بينك وبين صديقك رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد الذي تنازل عن القمة لصالح لبنان (وتكفل بنفقاتها أو بمعظمها) تقديراً للبنان المقاوم الذي قدم للمقهورين من العرب »القدوة« الباهرة إذ أثبت أن قوة الإيمان بالحق أعظم من قوة المحتل، وأن إلحاق الهزيمة بإسرائيل ممكن، حتى لو كان جيشها هو بين الأقوى والأخطر تسليحاً بين جيوش العالم.
بل سيستذكر البعض مواقفك العلنية وأقوالك المطلقة التي طالما كرستها لتحية شعب لبنان ومجاهديه الأبرار، وطلائع الاستشهاديين من شبانه وفتياته، خصوصاً وأنك في بعض الحالات قد أزجيت تحيات تقدير استثنائي إلى »شيعة« لبنان بما أثار »حنق« أو »غيرة« العديد من التنظيمات والمناضلين العاملين تحت رايات غير طائفية، والذين قدموا تضحياتهم باسم الأمة أو باسم فلسطين.
ولقد يسألك البعض أو يسائلك عن السبب في التحول من تقدير البطولة إلى توقيع العقوبة على هذا الشعب الباسل في هذا الوطن الصغير الذي لن ينسى لك أنك قدمت له الكثير في أيام محنته مع انفجار الحرب الأهلية فيه (بغض النظر عن التحولات والانقلابات في المزاج التي أقفلت الباب في وجه رفاق سلاحك القدامى وفتحته أمام الذين كانوا وما زالوا وسيبقون في الجانب الآخر من الجبهة ولن يزرع فيهم الدينار الإيمان بالعروبة ولا بحتمية المواجهة مع العدو الإسرائيلي ولا بحقوق الفلسطينيين في أرضهم).
بعيداً عن هذا كله، يا أخ معمر، فإن انعقاد القمة العربية كان يمكن أن يكون فرصة ممتازة لك شخصياً ولبلادك وشعبها الطيب، لكي تنهي قضية في غاية الحساسية كاختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه، وقد كانوا ضيوفك عشية احتفالك بالذكرى التاسعة لثورة الفاتح، في أواخر آب 1978، ثم لم يعودوا إلى بلادهم ولم يثبت بعد تحقيقات واسعة تركزت في إيطاليا أنهم وصلوا بعد طرابلس لا إلى روما ولا إلى أي مكان آخر.
كان يمكن أن تكون القمة فرصة لإعلان الحقيقة كاملة موثقة بالأدلة القاطعة: متى وصل الإمام موسى الصدر، المرجعية الوطنية العربية ذات الاحترام الاستثنائي، مع رفيقيه إلى طرابلس، ومَن استقبلهم، وأين أُنزلوا، ومتى استقبلتهم وقد زكاهم لديك الراحل الكبير هواري بومدين وجاءوا إليك من لدنه أم تعذر عليك أن تلتقيهم، ومَن كان مكلفاً بمرافقتهم، ومَن صحبهم في حركتهم حتى انتهاء الزيارة والمغادرة وفي أية طائرة وإلى أية وجهة.
لقد طلب إليك الكثيرون، دول وجهات رسمية وشعبية وأصدقاء ومحبون، أن تولي هذه القضية المهمة بذاتها، والحساسة بتداعياتها، الاهتمام الجدي المطلوب، وألا يتم التعاطي معها كما تم فعلاً وبمنطق: وما مسؤوليتنا عن هذا »الشيخ«؟! لقد جاءنا ونحن لا نعرفه، ثم خرج من بلادنا وانتهت مسؤوليتنا عنه، فلماذا توجهون إلينا الاتهامات بإخفائه أو بقتله؟! لماذا نقتل رجل دين؟! ما خطورته علينا؟! تعالوا فخذوا كل مشايخ ليبيا! ثم أنه »إيراني« فما علاقة لبنان به ولماذا له هذه المكانة المميزة؟«
ولفت كثيرون نظرك إلى حساسية الموقع الخاص للإمام الصدر في لبنان وفي المنطقة العربية جميعاً، وليس لدى الطائفة الشيعية وحدها، بل على المستوى السياسي العام، لبنانياً بالذات، ثم عربياً، وصولاً إلى إيران وسائر المسلمين، لا سيما المعنيين منهم بالتقريب بين المذاهب.
لكن »الأجهزة« في ليبيا ظلت تهوّن لك شأن القضية حتى تفجرت، مستدعية من التاريخ بعض صفحاته السوداء التي تصلح استثماراً مفيداً في الحاضر لقوى وجهات، عربية ودولية، تتغذى بالانقسام وتفيد من الفتنة لشق الصفوف وتقسيم الأمة الواحدة بل الشعب الواحد طوائف ومذاهب متصارعة بما يحقق مصالح الأجنبي طامعاً أو عدواً قومياً.
لقد آن للحقيقة أن تظهر، يا أخ معمر.
وها قد صار العرب كلهم طرفاً في القضية، وصار موسى الصدر بنداً على جدول أعمال هذه القمة وكل قمة عربية.
ولقد تنجح في مسعاك، المحكوم برد الفعل العصبي على ما قيل في بيروت، لنقل القمة إلى عاصمة عربية أخرى، لكن ذلك لن يكون دليلاً حاسماً على البراءة من التهمة الخطيرة الموجهة إلى القيادة الليبية. قد يسايرك بعض القادة العرب، مستهولين مثلك ومثلنا ما صدر من تهديدات من جهات غير مسؤولة تتناولك شخصياً، وقد يغضبون لغضبك، وقد تكون لهم مآرب أخرى أبسطها الهرب من مناخ لبنان المقاوم وتأثيره المحتمل على جو القمة وأعمال نجومها المثقلين بخوفهم من السلطان الأميركي المعزز الآن، علناً، بالسفاح الإسرائيلي، خدينه وشريكه ونائبه في منطقتنا.
على أن الأخطر هو ما سوف تستولده »حرب القمة« هذا على الصعيد العربي العام، من فرص لتجديد النفخ في جمر الفتنة (النائمة الآن)… فما أكثر الأصوات التي ارتفعت تتهم »الشيعة« بتخريب القمة العربية، وتحميلهم مسؤولية »الانقسام« من حول القمة، وصولاً إلى الطعن أو التشكيك بعروبتهم.
نعرف أنك لا ترضى بهذا ولا يقبله أي عاقل… لكننا، يا أخ معمر، في عصر الجنون الأميركي الإسرائيلي، وجنون الرعب العربي (وها هي باخرة السلاح تكاد تنفجر في وجوهنا جميعاً!!).
وتعرف، كما نعرف، أنها ليست »قمة شيعية«، ولا قمة بين المذاهب الإسلامية، وليس فيها مكسب خاص لآل الصدر (أو آل يعقوب وبدر الدين!) أو لشيعة لبنان، خاصة وللشيعة عموماً..
إنها قمة لتلاقي العرب على همومهم الثقيلة، ومحاولة الاتفاق على الحد الأدنى من شروط المواجهة المفروضة عليهم، والتي تتهددهم في مصيرهم، حاضراً ومستقبلاً،
وأمر جميل أن تكون هذه القمة فرصة للتخفف من عبء ثقيل على الضمير والنفس يتصل بالمصير المجهول الذي انتهى إليه قائد سياسي مميز (ولو بعمامة) مثل الإمام موسى الصدر.
فالجريمة في قضية موسى الصدر سياسية، والمحاسبة المطلوبة سياسية، وأنه لأمر طيب أن يتم ذلك كله في إطار قومي وعلى مستوى القمة، ولا أحد يطلب أو يرغب في أن يكون العلاج على حساب العمل القومي أو سبباً في فرقة جديدة بين العرب.
ثم أن الكل يتمنى أن تكون الحقيقة فرصة لإعلان البراءة المطلقة لك شخصياً ولليبيا قيادة وشعباً من هذه التهمة المفزعة..
وختاماً، أيها الأخ العقيد، لك أطيب التحيات من لبنان الذي يحبك ويحرص عليك، وأعظم دليل على حرصه أنه يطلب منك الحقيقة حتى لا يظل موسى الصدر ورفيقاه ضحية مرتين، وحتى لا تظل أسير التهم إلى أبد الآبدين.
والسلام على من اتبع الهدى.
مع صادق الود