كان لقاؤنا الأوّل عنواناً لزمن جميل حفرته الدهشة ورافقته الضحكة، عرفتُ لحظتها أنني في حضرة من سوف لن يغيبَ بعد الآن. صارحته أنني كنت أعتقد أنّ اسمه مستعاراً فضحك حتى أدمعت عيناه الواسعتان فبانت تلك الطفولة المتأرجحة بين المشقّة والأمل. كان اللقاء في منزل الضابط الموسيقي جوزاف بدوي الذي أصبح في ما بعد بيتي فهو من “أهل السماع” كما يطلقون على أنفسهم، هولاء القلّة القليلة التي أدمنت الطرب الراقي. إنتهت السهرة ومنه “شكراً لهوا الشمال الذي أتى بكِ إلينا”.
توالت اللقاءات وتعمّقت الصداقة واعتدتُ زيارته في شارع الحمراء في جريدة “السفير” لسنواتٍ طويلة، تحية عند المدخل من فؤاد مرافقه ورفيق دربه، وسلام من سكرتيرته الصديقة ديانا وإلى مكتبه فيستعير من زياد الرحباني”شو ذنب الشوق لو نحن اشتقنا” لأردّ “قلو محلهن ما في حدا”، ويدور الكلام دوماً خارج السياسة واليومي . هناك كان يخترع طلال سلمان من اللاشيء أشياء وأنثر أنا أمامه من نسيج الألفة الحكايا، لم نكن نتطرق إلى الأسماء إلا من باب الإختلاف والسرد المقيم على حدّ الإنتشال من وجع أو من خيبة، ندخل في تحليلات واستنتاجات نرتأ بها ذاكرة مثقوبة من ثقل، هكذا كنا نحيك للوقت قبعة تقيه الضجر. أَجريتُ معه مقابلة في مجلة “الطباعة” كانت أشبه بحوار عمر وبالمقابل مررّت له نصوصي الذاتية، هكذا صرنا نعرف عن بعضنا ما لا كنّا لندركه من خيوط الكلام. كان يستدعي الأشخاص ليس من بوابة الحاضر أو موقعهم المهني بل من بوابة الحكايا التي ألبسناها خواتما لأصابع الأيام، فعندما طلبَتْ منه أختي مداخلة حول أدب زوجها الشاعر الراحل جورج يمين وهي إعلامية ورئيسة جمعية ثقافية أحيت المواعيد اللافتة إستجابَ على الفور قائلاً لي “ماريا أعرفها أليست من أخبرتني أنها كلما عادت من نزهة طويلة أو سفر تشتاق إلى منزلها وتردّد بصوتٍ عالٍ بيتي أحلى بيت”، نعم هي،وكلّ مَن حولنا رسمناه كما طابَ لنا. جلبتُ له حجارة صغيرة من إهدن ووزعتها بيت كتبه بشكل كائنات حية، وكم فرحت عندما جلب من “شمسطار” ما شابه أشكالها.
كان عصاميّ السيرة، شهد محاولة اغتياله، عرف الهزائم وخاض الإنتصارات، كان جاهزاً لكلّ التحولات، ما كان يخيفه إلا أمر واحد وهو أن يصيبَ أولاده أي مكروه وهذا ما أراني أكرره بنفسي اليوم عند كل شدّة “المهم يبقو الولاد بخير”. كتاباته سواء مقالته “على الطريق” أو “هوامش” كانت صدى لسعة تجربته وثقافته ولكن ما كان يميّز هذا الرجل هي قدرته على جعل الوقت الذي تمضيه معه ثميناً سواء جالسته، أو رافقته إلى معرض، أو تناولت معه الغداء، وكم تحضرني الآن خطواتنا من جريدة السفير إلى مسرح بابل، حيث كنّا نسير ليلاً والمدينة تطلع من رؤوسنا مشرقة سألته ما أَحبّ المشاهد إلى قلبه أجاب أوّلاً بأنه مَشهد أناس يتحلقون ويدبكون، وثانياً مشهد الألبوم الإلكتروني الذي تمرر له شاشته وجوه الأحبة والغوالي، أما أنا فكان أوّل مشهد عندي لطالب يحمل كتبه ويسير في محيطه الجامعي وأيضا الثلج الذي يهطل بهدوء فيعلق على أغصان الشربين، ودخلَ مَن معنا في اللعبة حتى انسدلت الستارة.
طلال سلمان، يا أيّها المارد الأسمر الأنيق، كان مرضك المعروف عندي مغيّب بيننا، تجاهلناه قدر المستطاع فرميناه طويلا في سلّة اللاسؤال، لكنه في وقت ما صار شديد الحضور، فأخذ اللقاء ولم نعدْ نلتقي لكن أوقات قضيناها وضحكات تبادلناها ظلت معلقة في الهواء ولم تغادر مساحتها الممتدة في الفضاء البعيد.