طلال سلمان

قضايانا بين نظامين: الإقليمي فاشل والدولي مشروخ

اجتمع مجلس الجامعة العربية ليقرر في شأن أمر من أمور الأمن القومي العربي وبالتحديد في شأن إعلان تركيا عزمها التدخل العسكري في ليبيا بناء على طلب إحدي السلطتين اللتين تزعمان، كل على حدة، حيازة الحق في الانفراد بحكم البلاد الليبية. لم أنتظر أن أسمع خيرا نتيجة مداولات مندوبي الدول العربية. تشبتث بالبحث حتى عرفت أن شابا كان يشارك ضمن وفد بلاده في مؤتمرات انعقدت قبل عقود في هذه القاعة ذاتها موجود داخلها ولكنه هذه المرة بصفته خبيرا مرافقا ومستشارا لرئيس الوفد. استجاب لدعوتي والتقينا في المساء وبعد أن تبادلنا الإطراء على مظاهر الصحة سكت طويلا قبل أن ينطلق منفعلا بخطاب غاضب. راح في البداية يذكرني، كما لو كنت قد نسيت، بسجالات وندوات وسهرات شهدت دفاعاتنا عن حلم عربي، وبمواقف سجلنا بها العزم على حماية مبادئنا وحقوقنا ونيتنا ألا نتوقف أو نضعف قبل أن نحطم أسوار التخلف ونقبض على مفاتيح التقدم.


يقولون في العادة سعدت باللقاء بعد افتراق طويل. لا لم أسعد باللقاء. فاجأني بخطابه الغاضب كما لو كنت وكل نساء ورجال جيلي تخلينا عن التزامنا أو خنا عهودنا أو خدعنا شعوبنا وأهالينا. لم يزل لسانه أو يتجاوز الحدود ولم أتوقع أن يحدث هذا فتاريخه في دبلوماسية بلاده والمؤسسات الدولية وسجل علاقاته الشخصية والعامة تستبعد أن يخطئ في خطاب حتى وإن اكتسى بالمرارة والغضب. على كل حال ورغم اطمئنانه إلى قدرته على التحكم في انفعلاته اعتذر مسبقا عما يمكن أن يقوله وأعتبره تجاوزا في حدة الرأي أو تماديا في الاستنكار. مرت لحظات هدوء تعمدت أن تطول عاد بعدها الصديق من البلد العربي الشقيق ليبدأ في نقل تفاصيل الجلسة التي شارك فيها وهي لمجلس جامعة الدول العربية المدعو لمناقشة عزم دولة ليست عضوا في الجامعة، هي تركيا، إرسال قوات مسلحة إلى دولة عضو في الجامعة، هي ليبيا. استمعت إلى التفاصيل عبر مقاطعات متعددة بغية الحصول على صور شفهية للمتحدثين علها تكشف عما في نفوسهم وخلفياتهم وإمكاناتهم التفاوضية. هكذا كنت أفعل وأنا في موقعي خلال جلسات مماثلة كنت أحضرها لمهمة صياغة القرارات مع ناصيف حتي الخبير اللبناني والزميل القدير في الجامعة العربية. تعلمنا وقتها أهمية الربط بين الكلمة وملامح المتكلم لحظة النطق بها. أذكر أننا كنا نراهن على متحدث يلقي بيانا لم يقرأه قبل أن يدخل إلى القاعة أو على مناقش غير مؤهل دبلوماسيا ولم يستعد لمناقشة القضية المطروحة رغم أهميتها. كنا أيضا نهنئ ونسهر الليالي مع من تثبت لنا براعته في عرض قضية بلاده، وكانوا غير قليليي العدد.


قضيت ساعة أو أطول قليلا أستمع إلى سرد وصفي للجلسة من صديقنا الدبلوماسي العربي المخضرم حتى وصل إلى نقطة علا عندها صوته استعدادا فيما يبدو ليختم حديثه فإذا به يقول بوجه متجهم وعيون جاحظة “أيها الصديق العزيز، ما رأيت في جلسة اليوم وسمعت لا ِعلاقة له بما تعلمناه وتدربنا عليه ونشأنا نحلم به. اليوم عشت أتابع تفاصيل كارثة وليس جلسة يفترض أن تجمع بعض خيرة الدبلوماسيين العرب. اليوم سمعت رؤساء وفود جاؤوا إلى جلسة معلن عن موعدها قبل انعقادها بوقت كاف وقد تدهش أيها الصديق والمعلم إن قلت لك أن أكثرهم لم يتلق من المستويات الرسمية الأعلى في بلاده تعليمات أو إرشادات مناسبة. لذلك حفلت الجلسة وتداعياتها بالمراوغة والأنباء المزيفة والكذب الصريح واللامبالاة القومية والاستهتار بأولويات العمل العربي المشترك وبخاصة في قضية هي من صلب أسس ونشأة هذه المؤسسة الإقليمية، أو القومية إن شئت، قضية تمس في الصميم أمن ومصير كل دولة كبيرة وصغيرة في هذا التجمع الذي كان عند النشأة عربيا خالصا ليصير مصيره بعد سبعين عاما محل شك كبير. اجتماع اليوم شهادة على حال عربي يزداد قبحا”. كانت المرة الأولي في مسيراتي الأكاديمية والسياسية التي أسمع فيها من يصف حال الأمة العربية بأنها قبيحة. هالني الوصف.


عندما بلغني أن مبعوث الأمم المتحدة المكلف بالأزمة الليبية اجتمع في نيويورك بمجلس الأمن أرسلت في طلب تسجيل كامل لمؤتمر صحفي عقده فور انتهاء الاجتماع. أعرف الرجل وأعرف عنه الكثير. من هذا الكثير أنه يبقى ملازما لهدفه حتى لا يغيب عن بصره. قال في المؤتمر الصحفي أنه قضى ثمانية أشهر يحاول إقناع مجلس الأمن الدولي بإصدار قرار جديد بوقف لإطلاق النار. حضر خمسة عشر اجتماعا خلال هذه الشهور ولم يحصل من أعلى مؤسسة مكلفة بحفظ الأمن الدولي على ما يضمن حق الليبيين في عيش آمن ليعقبه عيش كريم. لا بد أن هذا المبعوث شعر بما شعر به الدبلوماسي العربي خلال حضوره جلسة أعلى مجلس عربي مكلف بحفظ أمن وكرامة شعوب الأمة العربية. كلاهما لا بد شعرا بأن أكثرية الحاضرين، منهم الذين اجتمعوا في القاهرة ومنهم الذين اجتمعوا في نيويورك، لم تكن لديهم تعليمات من حكوماتهم. بدا مجلس الجامعة للمراقبين وربما للوفود نفسها مؤسسة إقليمية منزوعة الوظيفة. هكذا أظن كيف بدا مجلس الأمن لمراقبيه وربما لسفراء ووزراء خارجية يمثلون خمسة عشر دولة، منها خمس عظام بمقاعد دائمة، بدا هو الآخر، في تلك اللحظة وعبر لحظات كثيرة خلال شهور وبالأحرى سنوات، مؤسسة دولية منزوعة الوظيفة. غمرني الأسى، كالذي بلا شك غمر المبعوث الأممي فجعله يلقي باللوم على نظام دولي وصف حاله “بالانكسار”.


نعيش في نظام إقليمي عربي غير فاعل ومنفرط الأجزاء، مؤسساته منزوعة الوظيفة وممارساته “قبيحة” وحدوده انفتحت على جوار كان دائما في الانتظار. ونعيش في نظام دولي في حال انكسار، حسب رأي المبعوث الأممي. بعض أهم مؤسساته فقدت أسباب وجودها ومؤسسات أخرى تحت الحصار وكثير من ممارساته خارجة عن الشرعية فهي لا تحترم خطوطا حمراء أو سيادات قانونية أو قواعد دولية أو أخلاقية. كلنا، وأؤكد كلنا، نعيش لحظة تحذير.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version