طلال سلمان

قسطنطين زريق: العربي بامتياز .

 

كان الحفل متواضعا كالمكرّم فيه، قسطنطين زريق.
وكان الخطباء، بتعدد لهجاتهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية، يؤكدون سلامة الفكرة التي أعطاها قسطنطين زريق جهد عمره، مدرِّساً ودارساً، كاتباً ومبشراً، داعية ومنبهاً الى الأخطاء والمزالق، وناشراً عبر الإيمان العميق بسلامة التوجه روح التفاؤل، مؤكداً على القدرة والأهلية، لافتاً الى خطورة دور التاريخ في تكوين الوعي المستقبلي.
كانت بيروت، أمس، تكرّم نفسها، وتكرّم أمتها العربية عبر الاحتفال بمعلم الأجيال الذي تجاوز التسعين وما أرخى قلمه، ولا ضعف يقينه، ولا جرفه اليأس أو هدته الانتكاسات أو الخطايا التي ارتكبها بعض من ينسبون أنفسهم زوراً أو تعسفاً الى الفكرة القومية فيغتالونها ومعها المؤمنين بها.
هو »العربي« بامتياز، ومن هنا كان الاحتفال تكريماً لكل مواطن عربي، في المشرق أو في المغرب، بقدر ما كان وعداً بإكمال الرسالة والثبات على المبدأ الذي ما زال مصدراً للنور يشق قلب الظلام الذي يكاد يسد على الأمة طريقها إلى غدها.
مساهمة من »السفير« في تكريم قسطنطين زريق، نقتبس هنا فقرات من »مقدمة« كتابه »الأعمال الفكرية العامة« وهي بقلمه، وقد استهلها بالإشارة الى انه وُلد في دمشق العام 1909 »في حضن أسرة من الأسر المتوسطة الحال وفي رحاب طائفة من الطوائف المسيحية (الروم الأرثوذكس) التي عرفت بقلة تعصبها… ونشأتي في دمشق غرست فيّ الشعور الوطني المتجرد من التعصب الديني أو الطائفي والمتطلع إلى حرية البلاد العربية واستقلالها..«.
يقول قسطنطين زريق، في حديثه عن أزمة المجتمع العربي (ونحن نقتبس ولا ننقل):
وعلى هذا، فإن حاجة المجتمع العربي الأساسية هي الانتقال السريع والحاسم من حالة »العجز« الى حالة »القدرة«.
إن أهم مقومات جوهر القدرة ومميزاته تكمن في ثلاثة: أولها في أنه بشري لا طبيعي، يتمثل بمبلغ رقي العنصر الإنساني الذي يضمه المجتمع أكثر منه بوفرة موارده الطبيعية أو بخصائص موقعه أو بمزايا شعبه العرقية.
والصفة الثانية لجوهر القدرة المطلوبة هي في أنه كيفي لا كمي. فالأعداد البشرية التي يتألف منها المجتمع لا تُغني بكثرتها أو بتزايدها السريع، وإنما بميزاتها المكتسبة، أي بمقدار تحررها من طغيان الخارج ومن شوائبها الباطنة. فلا معنى إذن للمقولة التي انتشرت في الأوساط العربية والتي لا تزال تُعتمد في بعضها، وهي أن المجتمع الاسرائيلي الذي لا يتجاوز عدد أفراده الخمسة ملايين سينكمش أو يزول حتماً إزاء مجتمع المئتي مليون، أو أكثر، من العرب المتزايدين المحيطين به. إن ضخامة الكم السكاني وسرعة تزايده تغدوان عالة على المجتمع وعائقا من عوائق نهضته وارتقائه إذا لم يصحبهما ولم يصدّ تدفقهما الأرعن تحول كيفي نحو التحرر والتآلف والتحضر.
أما الصفة الثالثة لجوهر القدرة التي نتحدث عنها، فهي كونها ذاتية لا تمنح من خارج ولا تأتي عن طريقه، وإنما تتمثل أولاً في الكيان المجتمعي وكيان الدولة ذاتها. فلا سلامة لأي مجتمع تعتمد دولته على اتفاقات أو عقود أو محالفات بينها وبين الدول الأخرى، خصوصاً القادرة منها.
لقد كنا وما نزال نستند، في محاولات تحررنا من أطماع الآخرين (الأعداء الخارجيين والمتغلبين الداخليين)، الى حقوقنا الوطنية والإنسانية، أكثر منا إلى تنمية قدراتنا الذاتية.
والمثل الصارخ لهذه الحقيقة المعاصرة يتجلى في مسار القضية الفلسطينية، حيث الحق الفلسطيني العربي واضح كل الوضوح للنظر والعدل الموضوعي، ومع هذا، فقد انتُهك هذا الحق في هذا القرن مرات متتابعة وبأشكال فاضحة بسبب تفرق الفلسطينيين والعرب عموماً وقصور قدرتهم تجاه الصهيونية وإسرائيل وتجاه الدول المسيطرة في عالم اليوم. وكثيرا ما يردد بعض الساسة أو الكتّاب أو الصحافيين الذين يودون الظهور بمظهر الحياد في قضية الصراع العربي الصهيوني أن صعوبة هذه القضية تكمن في أنها صراع بين »حقين«: »حق« الفلسطينيين في أرضهم وتقرير مصيرهم، و»حق« الإسرائيليين في العودة الى موطنهم الأصلي. وهو كلام ينطوي على أحقر الخداع أو الانخداع، إذ إن هذه القضية هي في تاريخها وواقعها صراع بين حق ملتبس بالضعف والعجز وباطل متسربل بالقدرة الذاتية والخارجية.
وها نحن اليوم، في أدق مراحل هذا الصراع، بعد أن عقد اتفاق المصالحة والسلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، نجد أنفسنا مشتتين بين موافقين ومخالفين، أو عاجزين عن اتخاذ القرار الصريح، أو متهربين من المسؤولية باتخاذ المواقف التي ترضي الحكام أو الجماهير.
} ويجدر بنا أن نلاحظ في متطلبات التكوّن القومي:
(أ) أنها إنسانية، بمعنى انها لا تصدر عن خصائص طبيعية أو عن عوامل مجهولة، بل عن »نوعية« الإنسان (مصنوعا وصانعا) الذي يضمه المجتمع.
(ب) أنها اكتسابية بمعنى انها لا تحصل بقدر محتم أو كمنحة من خارج أو كقسط من إرث، وإنما بالاكتساب الذاتي عن طريق الإدراك الواعي والجهد الخالص الدؤوب.
(ج) أنها قابلة للانتشار في المجتمع، بمعنى انها ليست ملكاً محتكراً لفريق معيّن أو محصورا بطائفة أو فئة محددة، بل انها تسري في صفوف المجتمع المهيأة لها. وبذا تكون حيوية هذا السريان وقدرته على اختراق الحواجز الموروثة من الماضي أو التي ينصبها القاهرون في الحاضر، وبالتالي القيمة الحقيقية لهذه الحيوية جوهراً واتساعاً مؤشرا آخر لحال مجتمعها عامة، ولأهلية ذلك المجتمع للتكون القومي.
} وكما أن القومية، كما نعرفها اليوم، لم تنشأ منذ الأزل، فقد لا تستمر بشكلها الحاضر الى الأبد. ذلك أن النضال التحرري التحضري عندما يستمر ويتواصل خليق بأن يتخذ في العصور المقبلة أهدافاً وأشكالاً جديدة.
أما مداولاتي والقائلين ب»العروبة« أو ب»القومية العربية«، فقد كانت تجري في اتجاهات ثلاثة:
الاتجاه الأول هو التمييز بين القومية العربية والإسلام. اقول التمييز ولا اقول الدحض أو النفي لتأكيد هاتين العقيدتين، بجوهريهما، هدفاً واحداً، هو تحرير المواطن والإنسان من تحكم الغير ومن نقائصه الذاتية، فالإسلام، كغيره من الأديان العالمية، معين روحي دافق يجدر بأية عقيدة قومية، وبالعقيدة القومية العربية خاصة، أن تستقي منه وتتقوى به وترقى. على ان التطورات الحديثة التي أبرزت الحركات والمجتمعات القومية قد فصلت بينها وبين الأنظمة الدينية تحقيقاً للمساواة بين المواطنين على اختلاف أديانهم ومذاهبم. إن الأنظمة الدينية تتوجه في المجتمعات الإنسانية من الأعلى الى الأدنى عن طريق الوحي الإلهي. أما الانظمة القومية، فتحاول بناء هذه المجتمعات من الادنى الى الأعلى، أي من الشعب وبالشعب ومن أجل الشعب المعتبر مصدر كل سلطة سياسية ومحرك التحرر والتقدم. فلا يضير هذا الشعب في تكوّنه وتحضره وترقيته، بل يفيده ويغنيه، أن يتخلص أفراده من رذائلهم ويسموا نفسياً وخلقياً بتعاليم دينهم، شرط ان تعرف السلطة الدينية حدودها، فلا تقيم نفسها سلطة سياسية بالاضافة الى سلطتها الروحية الدينية، فتعيق نشر المساواة القانونية التامة بين المواطنين، وهي أساس العقيدة القومية والتنظيم القومي.
أما الاتجاه الثاني في مداولاتي مع القائلين بالقومية العربية، فهو نحو تأكيدي وجوب احتواء أية دعوة قومية وأي تنظيم قومي على »لب« اقتصادي اجتماعي ثقافي، لأن القومية الحقة ليست دعوة سياسية فحسب، وإنما هي حركة شاملة لحياة الشعب كلها، تعمل على تحريرها من الأسواء الداخلية والخارجية معاً والى نقل اوضاعها من مواقع التخلف والانفعال والتبعية الى مرامي التقدم والفعل والسيادة.
أما الاتجاه الثالث فمصدره اقتناعي أيضاً بضرورة تكوين العقيدة القومية العربىة الصحيحة، وتأصيلها في نفوس الشعوب العربية وبناء قواعد متينة لها في المجتمعات العربية، قبل الإقدام على محاولة تطبيقها سياسياً أو فرضها فرضا »فوقياً« بواسطة أصحاب السلطة من مدنيين او عسكريين، إذ ما يلبث الأولون أن يصبحوا ألاعيب في أيدي الآخرين، يُحكم باسمهم ولا يحكمون، ويشهدون انفراط قوميتهم وتدهور مجتمعهم ووطنهم وهم عاجزون، أو يمتصهم الفساد فيشتركون في عملية التدمير الفاجعة وفي انحدار المجتمع الى دركات اسوأ فأسوأ.
على ان الفرق الاساسي البارز بين نظرتي الى القومية العربية ونظرة الكثيرين من دعاتها والناطقين بها، هو اعتباري أن هذه القومية ليست في الواقع موجودة الآن فعلاً، ولم تكن موجودة بمفهومها الحديث في أي من عصور تاريخنا. إن ما كان موجوداً منها في تراثنا، وما يتجلى منها في خضم حياتنا الحاضرة، إنما هو مجموعة عناصر مؤهلة لتكوين قومية عربية حيّة فاعلة، إذا عرفنا كيف نقتبسها ونطوّرها حسب متطلبات الحاضر والمستقبل. وكما قلت وكتبت مرات، إن القومية العربية، إذا أردنا استخدام المصطلح الفلسفي، هي قائمة فينا ب»القوة«، أي إمكاناً وقابلية، لا ب»الفعل«، أي وجوداً وتحققاً، وبالتالي حيوية وتأثيراً.]]

Exit mobile version