طلال سلمان

قررت العائلة فظلمت

سألتني عن ماضي حياتي ولم تحدد عن أي ماض تسأل. ومع ذلك يسعدني أن أجيب. أبدأ، على كل حال، بطفولتي. أبدأ بها ليس لأنها أول ماض وأقدم ماض، ولكن لأنه أحلي ماض في حياتي، ولأنه الماضي الذي أذكره أكثر من غيره، وربما لأنه الماضي الذي عشته متحررة من أي نوع أو درجة من المسئولية، أو لأنه الفترة من الزمن حين يستحيل أن  يخطر المستقبل على العقل وحين لا يتجاوز الطموح حدود الشعور بالشبع وبعده الحب.

ولأن هذا الماضي هو الأول لم يسبقه لينافسه على النصيب الأكبر من ذاكرتي ماض آخر أو هكذا كان اعتقادي حتى سمعت أو قرأت أن هناك من العلماء من يعتبر أن عددا بعينه من شهور الحمل تدخل، أو يجب أن تدخل في حسابات حياتنا. يعني أن يأتي يوم يخرج المولود ومعه ذاكرة شهور قضاها جنينا في رحم أمه. وحتى يأتي هذا اليوم سوف أظل أعتز بذكريات طفولتي وأحتفظ بها شهادة على أننا كبشر عشنا مرحلة براءة لم تتكرر ولن تتكرر على امتداد حياتنا. أعتز بها أيضا لأنني عشت هذه المرحلة في نعيم من الدلال. قضيتها شهورا أتنقل من حضن إلى آخر. لا أجوع أو أعطش أو أترك على فراشي دون رعاية أو تدليل. خافوا أن أبكي. تناوبت إطعامي أمي وخالاتي وعماتي وجارات وضيفات ومربيات. أنام ساعات على هذا “الحجر” أو ذاك. تفوق كل “حجر” على فراشي الجميل والوثير في توفير النعومة والراحة والأمان والقرب من مصدر طعامي.

حبوت على أربع لأسابيع ثم وقفت ومشيت على قدمين لشهور سبقت خروجي من هذه التجربة من بيت أمي لدار حضانة ومنها لروضة أطفال. جعلني أهلي أجرب مدارس الراهبات منتبهين إلى أن الوقت حان لإضافة الضبط إلى التدليل. لأول مرة جربت الانضباط والترتيب واللياقة وآداب الحديث وأناقة المظهر. ولأول مرة أجبروني ثم تعلمت كيف أتصرف مع الصبيان كأنثى تتساوى معهم في الحقوق والواجبات والعواطف والرغبات. كبرت ولم يفاجئني رجال حياتي بآفات وتشنجات وغيرها من أمراض الذكورة وبخاصة في كل مرة تصادمت أنوثتي المنضبطة مع ذكورية منفلتة. حاتم، أحد أبناء عمومتي لم يفارقني منذ سنوات الحضانة. نشأنا معا ولعبنا معا. وجوده إلى جانبي أسبغ حماية وأبعد عني شرورا كثيرة. اخترعنا معا وسائل ترفيه وكانت لنا لعبنا وألعابنا.

أظن أن للراهبات في مدرستي وفي تلك المرحلة المبكرة من تكويني الفضل في غرس الاحترام العاقل والفاهم للتقاليد الدينية، وللحق لازمني هذا الاحترام عندما شاءت الظروف أن أخالط قادة دين متنورين من الهندوس والبوذيين ورجال أديان من الشرق الأوسط خلال مؤتمرات ومعسكرات تثقيفية حضرتها أو شاركت في تنظيمها في آسيا وخارجها خلال رحلات منتصف العمر.

اجتمعت العائلة الكبيرة في بيتنا كما تعودت أن تفعل في المناسبات. هذه المرة بدون مناسبة معلنة. حضر الكبار وحضر أبناء وبنات العمومة وعديد الأطفال. قال أحد الكبار بصوت كاد يكون مسموعا، “طول عمرنا بنقول إنهم لايقين لبعض، وأكتر اثنين في العيلة، بنت وولد عاشوا يحبوا بعض من يوم ما ابتدوا يلعبوا مع بعض”. مرت دقائق قبل أن أكتشف أنني الفتاة المعنية بالأمر ويكتشف حاتم وكان يجلس بجانبي أنه الصبي المعني بالأمر نفسه. تبادلنا نظرة استفهام وانفجرنا في الضحك. ارتفع صوتي وسط الضحك الذي انتقل من ركن كنا نجلس فيه إلى كل أنحاء القاعة، أذكر أنني توجهت بالكلام إلى حاتم متسائلة، “الحق يا بني دول دبروا لينا حاجة”.

لا أنكر أنني لوهلة مدتها ثوان تصورت أن العائلة ربما قررت تكليف حاتم بمرافقتي في رحلة السفر إلى المدينة الأوروبية التي قبلت إحدى جامعاتها طلب انضمامي لبرنامج الدراسات العليا. قطعت أمي حبل تصوراتي عندما رأيتها تقف لتعلن بصوت يتهدج فرحا وعيناها علينا، “مبروك يا ولاد، انتو النهاردة اتخطبتو لبعض وفرحكم الأسبوع الجاي”. اقترب حاتم ليهمس في أذني “الجماعة مش فاهمين، حاولي تفهمي طنط وأنا لن أترك أمي تنام الليلادي  إلا بعد أن تفهم حقيقة العلاقة بيننا”.

فشلنا. سألتني أمي إن كنت بالفعل أحبه وطلبت إجابة صريحة ومباشرة. أجبتها “طبعا يا أمي”. ردت بالقول “هذا بالضبط ما نطقت به في مجلس العائلة عندما عبر جدك عن خوفه وخوفنا جميعا من أن تنزلق العلاقة بينكما إلى ما لا يحمد عقباه. كنا على مدى السنين نراقب قربكما لبعضكما. كلهم تصوروا من زمان أنكما ستطلبان منا ترتيب زواجكما. طبعا لا انتِ ولا هو عارفين إن العيلة خصصت لكما شقة في عمارة الشركة المطلة على النيل وجهزناها بالكامل. كلهم متفقين على إن خير البر عاجله”.

دخلنا شقتنا بعد ليلة مرهقة. كنا اتفقنا قبل الفرح على أن نسايرهم فبين الكبار في العائلة من لن تتحمل صحته ولا مكانته علامة رفض من جانبنا. لم ندرك خطورة ما فعلوا بنا وما فعلنا بأنفسنا إلا عندما أغلقنا باب الشقة علينا. لم تكن أول مرة ننفرد ببعضنا. سافرنا معا إلى بيروت وسردينيا وباريس ضمن رحلات جامعية ولم نكن نفترق. كثيرون تنبأوا لنا بالمصير الذي صرنا إليه. فقط الأصدقاء المقربون كانوا مطلعين على جوهر العلاقة ومعجبين بها. انتقلنا من حيث كنا عند باب الشقة إلى غرفة جلوس مزودة بجهاز تليفزيون. جلسنا متواجهين في صمت.  تذكرت شيئا. تذكرت الصندوق الذي لا يفارقنا، نحتفظ فيه بأفضل ما في ترسانتنا من ألعاب ولعب والكتب المحببة لدينا. رحت أبحث في كل مكان من الشقة لنكتشف بعد البحث أن أهالينا قرروا حرماننا منه فلا شطرنج ولا طاولة ولا غيرهما من بدع التسلية الراقية. المؤامرة مكتملة الأركان.

مر الوقت ثقيلا. لأول مرة نكون معا ونشعر بالوقت يمر بطيئا وثقيلا. غلبنا لساعة الشعور بالغبن. بعد الساعة نظر كل منا للآخر وأمعنا النظر وتأملنا وقرأ كل منا ما يدور في ذهن الآخر. ضحكنا وتعالت ضحكاتنا في أرجاء الشقة ساحبة منا شعور الانكسار. هدأنا  قليلا قبل أن تصدر منا عبارة لخصت بكل السخرية الممكنة الموقف الذي انتهينا إليه. أعلناها صريحة مدوية “مش حينفع”.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version