السؤال قديم جداً لكنه ملحاح، ويعود فيفرض نفسه في لحظات التحول ومحاولات تبديل الاتجاه واختلاف الأزمنة وقوى التحكم: هل يمكن النظر إلى الثقافة من خارج السياسة؟! هل الثقافة عمل إبداعي بريء من التأثر ثم من التأثير بأوضاع البلاد وأهلها، أي جمهرة القراء والنخبة من الكتّاب والمثقفين، وصولاً إلى ”مركز القرار”؟!
ثم، هل يقتصر الحكم على المبدع على السياسة وحدها، وهل تجوز محاسبة إنتاجه انطلاقاً من دوره المفترض سياسياً، سواء أكان قد انتدب نفسه لأدائه أم كُلف بهذا الدور تكليفاً وتحول بالتالي إلى جزء من جهاز يخدم أغراضاً سياسية لجهات خارجية لها امتداداتها الداخلية؟!
وإذا كانت المباذل الشخصية والفضائح الصغيرة لا تصلح أساساً للحكم على مبدع، فهل يجوز التغاضي عن دوره، أو تأثيره السياسي، لا سيما إذا كان جزءاً من تيار، له ما قبله وله ما بعده، وله فعله في وجدان الناس وفي فهمهم لحاضرهم ومستقبلهم وطموحاتهم المشروعة الى دور حضاري؟!
كتاب جهاد فاضل الجديد يطرح بقوة هذه الأسئلة الجدية..
وهو لا يكتفي بعرض المسألة كمراقب أو حتى كشاهد، بل يستفيد من خلاصة تجربته الصحافية الطويلة، في المجال الثقافي، ومن لقاءاته وقراءاته ومتابعته لكي يصدر ”القرارات الظنية” ضد عدد من الكتّاب والشعراء الذين أبدعوا ثقافياً ولكن من ضمن منظور سياسي محدد وربما لخدمة وجهة سياسية بالذات.
وهي ”نظرة مغايرة” فعلاً تلك التي تتجلى في معالجة جهاد فاضل ”للأدب الحديث في لبنان” (صدر عن دار رياض نجيب الريس للنشر).
انها تكاد تكون ”قراءة سياسية” للواقع الثقافي، ومراجعة تصحيحية لكثير من الأحكام والمفاهيم التي أريد ترسيخها وتعميمها حول بعض كبار الكتّاب والأدباء من مبدعي النهضة العربية الحديثة.
أو انها قراءة سياسية مصحِّحة لأحكام سياسية وتصنيفات سياسية خاطئة أو ظالمة سبق أن أصدرها بعض الدارسين أو المتصدرين لكتابة التاريخ وتقييم النتاج الثقافي والمبدعين انطلاقاً من وجهة نظر سياسية قاصرة أو فئوية أو متجنية بحيث لا تتورع أحياناً عن ارتكاب جريمة التزوير واستخدام المزوَّر.
ولا يخفي جهاد فاضل قصده ولا يوارب في الإعلان، ومنذ السطر الأول، انه إنما يقود هجوماً مضاداً على تلك ”الفئة من المثقفين” التي استفادت من ”تزايد نفوذ الأجانب ابتداءً من الربع الثاني من هذا القرن وعقب تقسيمهم المنطقة واحتلالهم لها احتلالاً مباشراً، لكي تحاول ضرب مشروع النهضة وتحويله الى مشاريع مفصلة أحياناً على قد فئة أو طائفة أو مذهب ولتزوير التاريخ والتفكير بإحلال اللغة الأجنبية أو اللهجة الدارجة محل اللغة العربية، والتنظير للتعددية الثقافية والحضارية واللغوية، ونسبة لبنان إلى حضارة أخرى غير الحضارة العربية.
في هذا السياق، كان لا بد من أن يتوقف جهاد فاضل مطولاً أمام الحركة السياسية لبعض رموز الأقليات داخل الحركة الثقافية، وترويجها لمفهوم غربي للحداثة، وهو يعالج الأمر ضمن إطاره القومي فيرى تماثلاً يصل الى التكامل بين القول بالفينيقية (هنا) للانفصال عن العرب، وبين ”الأمازيغية” في المغرب العربي… بل هو يربط بين ”المجلة الفينيقية” التي أصدرها ميشال شيحا في بدايات عهد الانتداب وبين دعوة سعيد عقل الى هجر اللغة العربية واعتماد العامية أو المحكية وبالحرف اللاتيني بديلاً، كما فعل في مجلته المنقطعة الصدور ”لبنان”، ثم بينهما وبين مجلة أدونيس ”مواقف”.
وتلك سياسة كلية، وإن كانت الأدوات ثقافية.
ويلاحظ جهاد فاضل ان رواد عصر النهضة وقد كانوا بأكثريتهم من المسيحيين، اندفعوا لتأكيد عروبتهم وتأصيلها، محررين أنفسهم من أية شبهة لعقدة الأقلية، في حين أن القائلين بالتحديثية الغربية أغرقوا أنفسهم في المنطق الأقلوي كوظيفة سياسية لإعلان الانفصال عن الأمة.
في الكتاب لمحات من سير بعض كبار الشعراء والأدباء أبرزهم: توفيق يوسف عواد، كمال جنبلاط، ميشال طراد، الأخطل الصغير (بشارة الخوري)، أمين نخلة، عمر الزعني،
كذلك فيه فصل عن ”لبنانيي المهجر المصري” وفصل آخر عن ”لبنانيي المهجر الأميركي”،
وفي هذين الفصلين استعادة لبعض اللطائف وكشف بعض الجوانب الخفية في شخصيات هؤلاء الكبار ومباذلهم و”فضائحهم الصغيرة”… ولعل موقف مخائيل نعيمة من جبران خليل جبران يشكل نموذجاً مريعاً لتأثير الأحقاد الشخصية والمنافسات غير الموضوعية على الأحكام والتقييم.
لكن ”معركة” الكتاب محددة تماماً: انها مطالعة جامعة ضد مدرسة مجلة ”شعر” وكل من ساهم في الترويج لها أو التأثر بها، تمهيداً لإصدار حكم قاطع ضد يوسف الخال، أساساً، وأدونيس، بالاستطراد، وإدانتهما بتهم أبسطها تشويه الثقافة العربية والافتراء عليها واحتقار إنسانها ومحاولة تزوير تاريخه.
“لم تكن ”شعر” مجلة تحديث بريء، بل كانت تدعو الى نمط خاص من التحديث من شأنه إنهاء ثقافة معينة هي الثقافة العربية الاسلامية، وإحلال ثقافة أخرى هي الثقافة الأوروبية والغربية محلها.. هذا إذا لم تكن المجلة نوعاً من حملة ثقافية غربية تعاونت لأدائها مع منظمة ثقافية مشبوهة هي الأخرى، هي ”منظمة حرية الثقافة” التي ثبت انها كانت تموّل تمويلاً مباشراً من المخابرات المركزية الأميركية”.
وينقل جهاد فاضل عن يوسف الخال أنه كان يردد دائماً ”نحن المسيحيين صنعنا للعرب ثلاث نهضات: النهضة الجاهلية والنهضة العباسية والنهضة المعاصرة”… وكأنه بذلك كان يعتمد ”الكتاب الفاسد” للأب لويس شيخو ”شعراء النصرانية في العصر الجاهلي” وقد نصّر فيه من لم يكن نصرانياً أبداً كالسموأل (اليهودي) وغيره من الشعراء الجاهليين الذين لم يكونوا عرفوا شيئاً عن النصرانية.
كذلك ينقل عن الخال (وهو القومي السوري القديم) انه كان يدعو الى قيام ”أربع لغات شقيقة بحسب البيئة الجغرافية والانسانية التي استوطنتها، وهي: لغة المشرق العربي، ولغة الجزيرة العربية وما حولها ولغة وادي النيل ولغة المغرب العربي”.
أما أدونيس فهو صاحب ”السيرة الملتبسة”. وجهاد فاضل يرى أن أدونيس ليس شاعراً أو كاتباً فقط، بل هو سياسي أو على الأصح ”داعية”. وأدونيس كان مثل يوسف الخال ”لا يرى في التراث العربي، الواحد، وحدة كاملة، بل يعتبره مجموعات تراثات متناقضة، متصادمة، كما يرى أيضاً ان الحداثة ينبغي أن تفترق عن التراث العربي الإسلامي السائد والمكرس لتبني وتؤسس على تراث آخر مطموس ومعتم عليه هو تراث الغلاة ومن حكمهم”.
وفي تقدير جهاد فإن التراث الذي يقصده أدونيس هو كل ما قاله الشعوبيون والخوارج والمرتدون الخ..
ويربط جهاد فاضل، منطقياً، بين الدعوات التي تحملها مجلات ”أمازيغ” في مدينة اغادير عاصمة منطقة سوس في غرب المغرب باللهجة المغربية، ولكن بالحرف الفينيقي الذي طوّره سعيد عقل، ومجلة ”لبنان” التي يصدرها عقل في لبنان (ولو بغير انتظام)، ومجلة ”مواقف” التي يصدرها أدونيس، والتي ”تصدر حالياً عن هيئة ثقافية أجنبية لها اسم عربي، ومع أن المجلة شاطرة في تبديل أثوابها وتغيير مخططها بين الحين والآخر”.
كتاب جهاد فاضل يطرح قضايا جدية، ويصلح لإثارة نقاش عميق حول مرحلة مهمة تبدو وكأنها مرشحة للأفول أو للتحول في غير الاتجاه الذي اندفعت إليه بداية.
والنقاش يبحث عن بداياته الصحيحة كما عن سياقه العقلاني المستنير.