طلال سلمان

قراءة باللبناني لانتفاضة فلسطين..

ما أبلغ الدروس والعبر التي تلقيها علينا، بغير قصد وبعفوية مطلقة، وكل يوم، هذه الانتفاضة الشعبية المباركة في أرض فلسطين المحتلة، نحن في لبنان المقسم بحدود الجراح أمماً (وأهدافاً) شتى.

إنهم يفعلون، بالضبط، عكس ما يصار إلى ارتكابه باسمنا هنا، ومن هنا فهم يحتلون كل ساعة مساحة إضافية من اهتمامات العالم ومن وجدان إنسانه، في حين يمكن توجيه التهاني حارة إلى الزعامات اللبنانية الماجدة لنجاحها الباهر في إسقاط لبنان ذاكرة الدنيا، دولاً وشعوباً وأفراداً تنظمهم أحزاب وهيئات أو يتوزعون وفق أمزجتهم والأهواء.

ولنبدأ باستعراض المفارقات الجارحة والمؤلمة ولو بوجوهها الأبرز:

1 – هناك يتحرك الشعب، بمجموعه، كوحدة، ملتصقاً بالأرض كوحدة، حماية لانتمائه إليها وحقه غير المنازع فيها.

… وهنا نكاد نصبح، بفضل قياداتنا ورعايتها لشؤوننا، شعوباً بعدد الطوائف والمذاهب (المسلحة)، وتكاد أرضنا تفقد وحدتها بعدما مزقت “دولاً”، وبعدما افتقدت عنصر وحدتها الأساسي: وحدة انتماء الشعب الواحد إليها جميعاً… وكيف تبقى للأرض قيمتها – وطنياً – إذا كانت “شعوبها” متعددة الانتماءات، وأين الوطنية طالما استوطن “الجمهور” الطوائف، بالقهر أو بالقسر أو بتعذر البديل، لا فرق؟!

2 – هناك توحدت فئات الشعب جميعاً، الاجتماعية والطائفية، السياسية والدينية، تحت لواء هدف نضالي واحد هو توكيد وحدة هوية الأرض والشعب، فالأرض فلسطينية لأن الشعب فلسطيني، والشعب فلسطيني لأن الأرض فلسطينية، والمحتل هو العدو لأنه عدو فلسطينية الأرض والشعب.

… أما هنا فالهوية ما زالت موضع خلاف (؟!)، فقد تكون الأرض لبنانية لكن مواطنيها غير لبنانيين “بمعنى اللبناني اللبناني”، أو إن انتماءهم إلى لبنان ناقص وغير مكتمل!

ثم قد تكون الأرض لبنانية والمواطنون لبنانيين والهوية غربية، حضارياً، أو قد تكون الأرض لبنانية ويكون المواطنون لبنانيين من حيث المبدأ، ولكنهم متعددو الانتماءات عملياً، بعضهم شرقي والبعض الآخر غربي وبعض ثالث محير أو مخلط وبين بين!

3 – هناك ينتفضون بإرادة واحدة لإعادة تطهير صورة وطن شطبه، بالمعنى السياسي، الاحتلال الإسرائيلي… وهم يؤكدون عبر الانتفاضة إن وحدة الأرض الوطن – أرضاً وشعباً – أقوى من الاحتلال وأبقى.

… وهنا يتصرف أمراء الطوائف بنا وبالبلاد وكأن الطوائف، وتحت قيادتهم ، أبقى من الوطن وأقوى، قد يذهب الوطن، أرضاً وشعباً، قد تذهب دولته (الحكم والحكومة) وتبقى الطوائف ويبقى الأمراء… فالوطن هم، يبقى ببقائهم، فإذا مست امتيازاتهم “الغوه” ليستبقوها!

والوطن هنا يتحدد بموقع الطائفة في الحكم، فإذا ما طرأ على الموقع أي تعديل، ومهما كان طفيفاً، صارت حتمية إعادة النظر في وجود الوطن أصلاً… فالبيك، وكلهم بيكوات، أهم من الوطن، هو حقيقة ملموسة والوطن خيال أو حلم أو وهم أو شيء من هذا وذاك!

وهنا جيّر كل “زعيم” انتفاضة قسم من الشعب لنفسه عبر إعلانها انتفاضة لمنطقته من بين المناطق، أو لطائفته من بين الطوائف، واقتطعها باسم الانتفاض لنفسه ولذريته من بعده، وأخرجها من السياق الطبيعي للعمل الوطني من أجل استعادة وحدة الأرض والشعب.

وهكذا صارت عندنا “انتفاضات” بعدد الطوائف المسلحة، ولم يعد لنا وطن.

4 – هناك لا جيش لهم ولا قوات مسلحة ولا سلاح، غير الحجارة المباركة والعصي والمقاليع والزجاجات وإطارات المطاط، وغير ما تصطنعه إرادة المقاومة من أسلحة ووسائل صمود.

… وهنا يمنع قيام جيش وطني، ويجهر “الأمراء” بأنهم “طوبوا” الجيش لطائفتهم ودمجوه بـ “قواتهم” فجعلوه مجرد ميليشيا طائفية تضاف إلى قائمة الميليشيات الطائفية التي تتناهش في ما بينها ما كان في الماضي مشروع وطن.

وهكذا تتحول مدافع “جيش الشعب” عن أهدافها المفترضة إلى مدن الشعب وقراه، تدكها دكاً، وإلى منازل المواطنين تهدمها على رؤوس أصحابها، مرة باسم الحفاظ على “الشرعية” كأنما الشعب غير شرعي، أو كأنما شرعية الحاكم أقدس من حياة الشعب، ومرة باسم الحفاظ على كرامة الجيش كأنما هذه الكرامة منفصلة أو متعارضة مع كرامة الشعب أو إنها تنبع من مصدر آخر!!

على إن ثمة أمراً عاجلاً يرجى التنبه إليه:

تعودنا أن ننسب أعمال الطيش والرعونة إلى “الصبية”، وكنا حين نريد شتم “زعمائنا” الأماجد نتهمهم بأنهم صبية،

لكم نحن مدينون بالاعتذار اليوم للصلبية، بعض صناع الانتفاضة المباركة وبعض وقودها المقدس،

ولكم نحتاج، بدل زعاماتنا والقيادات والأمراء، إلى بعض هؤلاء الصبية الأبطال، الذين فهموا ما لم يفهمه هؤلاء العضاريط الصنادين عن وحدة الأرض والشعب، وحدة الانتماء، وحدة الوطن، وحدة الهوية، وحدة الأمة، وبالتالي وحدة العدو حتى لو تعددت رؤوسه…

… ومع الانتفاضة المباركة تحية إلى أحد القادة العظماء الذين وعوا هذه الحقيقة وقاتلوا حتى استشهدوا من أجلها، تحية إلى جمال عبد الناصر في ذكرى ميلاده، هو الباقي أبداً في وجدان الثوار والمجاهدين والعاملين لتحرير الأرض والإنسان في أربع رياح هذا الوطن العربي الكبير.

نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 15 كانون الثاني 1988

Exit mobile version