طلال سلمان

في مواكبة الحالة الثورية: نحو ولادة لبنان ـ الوطن..

ها هم اللبنانيون يثبتون هذه الأيام، بانتفاضتهم الرائعة انهم “شعب”!.. لقد فرض عليهم في ماضيهم السياسي الافتراق الى حد القطيعة بين مكوناتهم، وعبر “كيانهم” الذي عجز عن أن يكون “وطناً”، وعبر نظامهم الطوائفي الذي يقدم الطائفة والمذهب على الدين، خصوصاً وان الانتماء الطائفي بل المذهبي أحد شروط الحياة في هذا “الكيان”.

المناصب من أعلى مقامات الرئاسات فإلى وظيفة الدركي والعنصر في الجيش، وصولاً الى القضاء ومواقعه السامية، فإلى الادارات من المدير العام حتى الى الحاجب، توزع مثل “الكوتا” على الطوائف والمذاهب ممثلة بقياداتها التي لا تحول ولا تزول.

ومع انتكاسة دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وانفصال سوريا عن مصر، تعاظمت “الردة” في ظل هزيمة التيار القومي، وعاد كثيرون الى الاحتماء بعصبياتهم الطائفية والمذهبية.

ثم جاءت ثورة 14 تموز 1958 في العراق كفجر جديد.. لكن شخصية “الزعيم الأوحد” عبد الكريم قاسم والشعار الأثير للمحسوبين على الشيوعيين وأبناء السبيل من الغوغاء “ماكو زعيم إلا كريم” كل ذلك مجتمعاً ضيع الثورة المجيدة عن طريقها السوي، وغمرها بالدم لا سيما بعد عمليات “سحل” مسؤولي العهد الملكي والفوضى الدموية الهائلة..

..وجاء الخلاف المبكر مع القائد العربي العظيم جمال عبد الناصر (الذي كان في طريق العودة من رحلة استشفاء في بعض المصحات وقطع علاجه وعاد ليكون قريباً من مركز الحدث التاريخي..) ليحاول رأب الصدع وتجاوز الخلافات والحساسيات لكنه لم ينجح، لان المستفيدين من الخلاف كانوا كثيرين واقوياء دوليا..

في الوقت ذاته تفجرت انتفاضة شعبية في لبنان ضد الرئيس الراحل كميل شمعون الذي لم يتورع عن الاستنجاد بالأسطول السادس الأميركي فأنزلت قوات المارينز عند شواطئ بيروت، واضطر قائد الجيش آنذاك، اللواء فؤاد شهاب الى التفاوض مع قائد قوة الانزال، حتى لا يتوغلوا في الداخل…

ولقد كافأ اللبنانيون فؤاد شهاب بأن انتخبوه في المجلس النيابي رئيساً للجمهورية.. وبالإجماع.

ويذكر لهذا الرئيس الذي امضى عمره في الجيش انه كان صاحب رؤيا، وانه ـ وهو الأمير، بالإرث ـ كان إحساساً بضرورة الاصلاح وبناء الدولة الحديثة.. وهكذا استعان بالخبرات الأجنبية (بعثة إيرفد)، كما اختار مجموعة من الأكفاء لمؤسسات استحدثتها، منها مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي حتى يخلص التوظيف من الوساطات والشفاعات وتعتمد الكفاءة العلمية والنزاهة في اختيار أهل الإدارة الجديدة.

لكن الفساد كان عميق الجذور، فما ان رفض الرئيس شهاب التجديد أو التمديد، وجيء بالراحل شارل حلو رئيساً، حتى عاد أهل الفساد الى السلطة، تسللاً في البداية ثم كشفوا عن وجوههم ولا من يحاسب.


ما لنا وللماضي، لننظر الى أحوالنا اليوم:

ان لبنان، بشعبه جميعاً، من أقصى الحدود مع سوريا الى ادناها في الجنوب مع فلسطين المحتلة يعيش حالة ثورية لم يسبق له أن شهد لها مثيلاً.

ان مئات الآلاف من اللبنانيين، شباباً وصبايا الورد، كهولاً وفتياناً ملأوا الشوارع من أقصى شماله في عكار والمنية والعبدة والقبيات وحلبا، الى أقصى جنوبه في صور والنبطية وبلدات جبل عامل وقراه، الى صيدا معروف سعد التي شطبت الليل من حسابها وأقام أهلها في ميادينها والساحات، هاتفين للتغيير.. فضلاً عن البقاع بشرقه وشماله بعلبك والهرمل وما بينهما من بلدات وقرى، الى “جارة الوادي” زحلة والبقاع الغربي بعنوان راشيا وحاصبيا وغزة المرج وبر الياس الخ..

أما طرابلس الفيحاء التي أهملتها السلطة، بل اضطهدتها طوال عهود طويلة فقد تميزت بحضورها البهي في ساحة عبد الحميد كرامي التي حاول “الاسلاميون” طمس هوية عاصمة النضال القومي من فلسطين الى الجزائر، وأم الفقير التي كان الموظفون، بمن في ذلك العسكريون، “يتوسطون” لكي يرسلوا اليها فيخدموا في “أم الفقير” كما كان لقبها المضيء.

انها ثورة شعبية بلا قيادة واضحة، لكن شعاراتها ناطقة بإرادة التغيير كما شهدت وتشهد ساحات بيروت (رياض الصلح والشهداء والأشرفية الخ..).

وكذلك ساحات وشوارع جل الديب والذوق وجبيل، وحتى في البترون (مع التحية لجبران باسيل..) وصولاً إلى بلدات الكورة وقراها.

ولأول مرة حضرت عكار بثقلها الشعبي من العبدة إلى القبيات مروراً بحلبا ورحبه وعندقيت، رافعة رايات حرمانها الطويل، لتقول: انا هنا.. ومع الثورة!..


باختصار: نحن نشهد، لأول مرة في التاريخ، اسقاط “الكيان” بنظامه الطوائفي، لحساب ولادة ” لبنان” الوطن لكل ابنائه.

لقد انتصر اللبنانيون، اخيراً، على غرائزهم الطائفية والمذهبية، وتوحدوا خلف مطلبهم الطبيعي في وطن له دولته الجامعة ليكونوا فيها مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.

إن جيلاً جديداً تستولده الساحات الآن، وتوحده المطالبة بأن يكون لبنان وطناً وليس ساحة مفتوحة للقادر على اخذها، بحدود يخترقها العدو الاسرائيلي في الليل والنهار حيثما ومتى يشاء.


ملاحظة اولى: لا بد أن ذاكرة اللبنانيين كانت تحفظ في وجدانهم مشاهد الجماهير وهي تملأ ساحات الجزائر العاصمة وميادين سائر المدن والبلدات في الشمال والشرق والجنوب، هاتفة للثورة، مطالبة وبإصرار مؤكد على التغيير، بدليل انها لم تكتفِ بالاستقالة الاجبارية التي انتزعت من الرئيس المقعد عبد العزيز بوتفليقه، ولم تقتنع بالعرض الملغوم التي تقدم به رئيس اركان الجيش بإجراء انتخابات نيابية في 17 كانون الاول المقبل، تمهيدا لانتخابات رئاسية.. بل هي تواصل النزول لتملأ الشوارع والساحات، طلباً للتغيير الشامل.

ملاحظة ثانية: لا بد ايضا من الاشارة إلى أن مشاهد جماهير السودان وهي تحتل الميادين والساحات في الخرطوم والخرطوم بحري وسائر المدن في السودان، وتمضي شهوراً طويلة مالئة الشوارع بشابها ونسائها وصبايها المزغردات طلباً للتغيير…

ولقد تحملت هذه الجماهير محاولة الفيلد مارشال حسن البشير قمع الثورة، ورصاص جنوده التي اسقطت عشرات القتلى والجرحى، قبل أن يتم لها الانتصار…فتحرك الجيش، منضماً إلى الثوار، ليخلع البشير ويسجنه، تمهيداً لمحاكمته..

وطبيعي أن تسعى السعودية والامارات إلى محاولة “شراء” الثورة بالدينار والدولار، وان تسعى مصر السيسي إلى محاولة احتواء هذه الانتفاضة المجيدة عند حدودها الجنوبية.

لكن الثورة، عبر حكومتها الجديدة التي تضم لأول مرة في التاريخ، وزيرة للخارجية .. إلى جانب مجموعة من الوزراء الشبان الذين ساروا طويلاً على طريق الثورة، قبل الوصول إلى “سلطة” يمكنها أن تؤكد احترامها لشعبها، وان تنفذ اراداته..


..وفي انتظار مآل هذه الانتفاضة الرائعة التي تملأ ميادين بغداد والبصرة وكربلاء وسائر الانحاء في العراق، متجاوزة حدود الطوائف والمذاهب، غير هيابة او وجلة من بقايا الوجود العسكري الاميركي، ومحاولات اثارة الفتنة في انحاء ارض السواد..

والأمل أن ينجح شعب لعراق، اخيراً، في حماية ثورته الجديدة وأهدافه النبيلة في استعادة حقوقه في بلاده التي خاطب خليفتها العباسي هارون الرشيد الغيوم ذات يوم قائلاً: “امطري حيث شئتِ، فان خراجك عائد الي..”.

تنشر بالتزامن مع السفير العربي

Exit mobile version