طلال سلمان

في ذكرى أحمد زويل

يصادف اليوم 2 آب ذكرى وفاة العالم المصري أحمد زويل، وتكريما لدوره في الانجازات والاكتشافات العلمية نعيد نشر المقابلة التي اجريت معه خلال زيارته لجريدة “السفير” في 26 حزيران 2006.

“السفير” تحاور العالِم المصري حائز جائزة نوبل عن أبحاثه ورؤيته لمستقبل البحث العلمي
أحمد زويل: “الفمتو ثانية” بداية في رحلة التجدد العلمي
أنا مصري عربي وأميركا أعطتني الفرصة والتقدير ولذلك أحترمها

يحاول العالِم المصري الدكتور احمد زويل، الحائز جائزة نوبل، ان يدفع بصخرة البحث العلمي الى قمة الجبل، ضمن هاجس اساسي هو نقل المنطقة العربية الى العصر، حيث التكنولوجيا والمعلوماتية و”الغمتو ثانية” وهذا هو اكتشافه، ولعله بالضبط ما دفع الى وصفه بأنه “فرويد الذرة المعاصر”. ويدرك زويل ثقل الصخرة التي يحملها، وخطورة القاع الذي يمكن ان تندفع نحوه الدول العربية اذا ما استمرت على ما هي عليه؛ اي خارج العصر والانتاج العلمي والتقني، اعتماداً على الاستهلاك… علماً بأن المنطقة العربية تملك الخبرات البشرية التي يمكن المراهنة عليها، والامكانات المادية… فيما يبقى المطلوب هو “مراكز ضوء” ثلاثة تعمل من خلال خبراء عرب على البحث… يحدد زويل ثلاثة مراكز ضوء، في كل من جمهورية مصر العربية، لبنان والامارات العربية… ولا يبدو زويل متشائماً، من الهوة الحضارية التي تفصل المنطقة عن العالم الصناعي المتقدم… فالرجل القادم من عمق مصر، يحمل في داخله ايمانه بالأرض التي نشأ ونما عليها وما تزال نسغاً في دمه وطموحاً في مشاريعه المقبلة… اذاً “الغمتو ثانية” ليست نهاية المطاف… بل بداية رحلة متجددة في رحاب العلم… وزويل يحمل همّين: هم العلم والبحث ومحاولة الوصول الى محطة متجددة في عالم الاكتشافات… وهم دفع عجلة البحث العلمي في العالم العربي الى الامام… لا يبالغ في رؤية التخلف الذي نرزح فيه، ويراهن على قدرتنا على انشاء نظام للبحث يوفر الادوات والمناخات والامكانات للباحثين ويقدرهم… يؤكد زويل ان دولاً اخرى حازت مواقع على خارطة العلم من خلال “جزر علمية”. يضرب مثالا على ذلك ما حققته الصين، الهند، و… ثم ان اميركا ليست مجتمعاً غنياً ومثالياً، اذ هناك فقراء… لكن بالمقابل هناك شركات عملاقة ومراكز بحث تضم الألوف من الباحثين الذين يعملون في ظل ظروف مؤاتية.

في هذا الحديث الذي اجرته هيئة تحرير “السفير” مع العالِم المصري، لم ندع شاردة او واردة إلا وتناولناها معه، بدءاً من انطباعاته عن زيارته للبنان التي يختتمها اليوم، مروراً بالقاعدة العلمية في لبنان والعالم العربي، ولا سيما مصر، وما كانت عليه خلال مرحلة الستينيات، وعوامل الانهيار التي قادت الى تراجع الجامعة العربية عن لعب دورها البحثي ـ العلمي، وعلاقة ذلك كله بالمشروع السياسي العربي الذي مثلته الحركة الناصرية، ورحلته الى اميركا، والفرصة التي وفرتها له، وامكانية الصدام بين هويته المصرية وجنسيته الاميركية… وحصيلة جولاته العربية ولقاءاته مع الرؤساء العرب مستثيرا “نخوتهم” للاهتمام بالبحث العلمي والتكنولوجيا، باعتبارهما السبيل الوحيد الممكن لإشغال موقع حقيقي في كون يندفع بسرعة “الغمتو ثانية” نحو رحاب ابعد يوما بعد يوم. يركز زويل على مفارقة الثراء او البذخ الاستهلاكي في اكثر الدول العربية مقابل التقتير على البحث العلمي والباحثين، وزويل لا يخاطب الرؤساء والمسؤولين فحسب، بل يخاطب ايضا القطاع الخاص، ويدعو الباحثين الى عدم الركون الى رتبهم الاكاديمية ولقب “الدكتور” الذي يحملون، اذ الاساس هو الانجاز الذي يستطيعون تحقيقه في إطار العلم والتكنولوجيا والريادة.

والحديث مع د. زويل ذو شجون، بما في ذلك تصور انه في موقع المسؤولية، ومطالبته ببناء القاعدة العلمية العربية… بالطبع زويل ليس في موقع المسؤولية، لكنه في المقابل يملك الرؤية… وهو يؤكد ان حصوله على جائزة نوبل، ما زالت امامه محطات وحلقات، وهو يريد ان يكمل… ثم ما هي قصة “الفمتو ثانية” ثانية، كيف حقق اكتشافه المذهل، كيف يشرحه… وسيل من الاسئلة والاجوبة. هنا نص الحديث مع العالِم المصري زويل.
يعرب زويل عن سعادته لوجوده في لبنان وهو في حال من السلام “لم أكن أتوقعها”، إذ من يطلع على الاعلام الأميركي يتهيأ له ان الدنيا مقلوبة فيه.. لكن منذ وصولي اكتشفت حياة نشطة في كل المجالات، ولا سيما ان اللبناني معروف في العالم بشطارته في المداولات والحياة العلمية نابضة.. من هنا أرى أن الروح موجودة في لبنان ولن تنطفئ..

حول البحث أو الهمّ العلمي في لبنان يقول: للحقيقة عندما أدليت برأيي السابق كنت أتناول انطباعات سياحية وإنسانية.. أما قضية الهم العلمي فتحتاج الى كلام آخر، ولبنان بهذا المعنى لا يخرج عن إطار العالم العربي حيث البحث العلمي ضعيف. بالطبع لا يعني ذلك ان الوضع سيستمر على ما هو عليه الى ما لا نهاية، فالناس جميعا في المنطقة العربية تطمح الى إحداث تغيير، وهذا ما لمسته من خلال لقاءاتي مع رؤساء الدول الذين يطمحون هم أيضا الى تطوير الناحية العلمية في العالم العربي، لكن آلية التنفيذ التي نعتمدها ما تزال خاطئة. خصوصا وان ما ننفقه عليه يصل الى واحد بالمئة من الناتج القومي الاجمالي. لا شك ان تقدما يحدث، لكن ما دام البحث العلمي العربي ضعيفا، فإن التخطيط العلمي فيه ضعيف. ومثل هذا الأمر ليس مسؤولية الحكومات أو الدول فقط، بل هناك دور كبير مفقود لما يسمونه القطاع الخاص. إذ اننا نرى في الدول المتقدمة دورا متناميا للقطاع الخاص من خلال الأموال التي يضخها في مراكز الأبحاث والطلبات التي يتقدم بها الى الجامعات… هذا بعض انطباعاتي.. لذا فإن المطلوب هو استنهاض كل من القطاعين الرسمي والأهلي للعمل معا في هذا الاطار لتحقيق النقلة المطلوبة.

يقارن زويل بين مستوى الأبحاث التي كانت عليها المنطقة العربية خلال الستينيات وما هي عليه اليوم، ويرى ان الأمر لم يكن يقتصر على مستوى الأقطار، بل ان نوعية البحث العلمي كانت ذات شأن، ان على صعيد الجامعات وما تضمه من أساتذة وطلاب أو في المعامل والمختبرات، لهذا كله كان البحث العلمي في ذلك الوقت أفضل مما هو عليه الآن. وعن أسباب الانهيار يؤكد ان هناك عوامل كثيرة، “ولا أعرف إن كنت أنا الخبير الذي يحددها ويعددها، لكن في رأيي ان عدد الطلاب كبير جدا، مما يعني انه حدث تركيز على الكم. في الجامعة اللبنانية التي زرتها بالأمس حوالى 65 ألف طالب وفي جامعة القاهرة مائة وأربعين ألفا.. و… إذن هناك أعداد رهيبة من الطلاب، هذه تتكلف إمكانيات، والامكانيات غير كافية ولا تفي بالحاجة، أي أنها لا تتلاءم مع هذا الدفق البشري الذي يتوزع على الكليات. ثم هناك مسألة على درجة عالية من الأهمية تتمثل في قيمة المتعلم. إذ ان قيمته في الستينيات كانت عالية جدا. كان الخريج الجامعي مثار فخر له ولعائلته ولمحيطه وللمجتمع.. اليوم القيمة الأساسية تتمثل في الهاتف الخلوي والسيارة الفخمة وغير ذلك من المظاهر”.

السياسة والبحث العلمي

ولكن ما هي علاقة ذلك بالمشروع السياسي العربي؟ يجيب على السؤال قائلا: “يمكن ان تقول كانت هناك نهضة وإحساس بالعروبة وضرورة القيام بعمل مهم. أعتقد أيضا ان قيم المجتمع في ذلك الوقت كانت قوية لجهة العلم، بينما الآن يتم التركيز على الاعتبار المادي. لنأخذ مثالا على ذلك خريج من لبنان أو من دولة عربية لديه أعلى الدرجات والشهادات العلمية. إذا لم يكن معه مال لا يساوي شيئا. مقابل ذلك كان الخريج خلال الستينيات يحصل على 17 24 جنيها في الشهر وكان يكافح ويعمل ويستطيع أن يتزوج ويعيش ويكون عائلة. وكان المجتمع يفرح بنا. أعتقد ان القيم في المجتمعات العربية قد تغيرت..”.

ولم يكن الدافع الذي حفزه الى التوجه نحو أميركا الأزمة. فقد كانت حياته في مصر قمة. الحرم الجامعي ممتاز، وكنت أقوم بأبحاث في جامعة الاسكندرية. المجتمع نفسه كان سعيدا بنا رغم النكسة. كنا كشبان نعيش حياتنا ونقوم بنزهاتنا. ولكن الذي حصل لنا كشباب ان أميركا كان لها قوة جذب خرافية من الناحية العلمية. وانا كشاب ابن عشرين سنة كنت أدرك انه لا يوجد بلد في العالم أستطيع أن أقوم به ببحث علمي على المستوى الراقي سوى أميركا. حيث البحث العلمي بلغ أقصى درجات التقدم. ولعل هذا بالضبط ما دفعني الى ان أقدم طلبات إليها كي أحصل على منحة منها، الى جانب ذلك فإن هزيمة العام 1967 مثلت انكسارا نفسيا ومعنويا لنا وولدت حالة إحباط، دفعت بالكثيرين الى مغادرة مصر في ذلك الوقت. وأعتقد انه في لبنان حصل نفس الأمر لجهة هجرة الكفاءات. إذن اعتقد ان عامل الجذب الى أميركا هو البحث العلمي. وهذا ما حصل لنا بعد الانكسار. لكن عليّ أن أقول ان التعليم في مصر اليوم ممتاز ومتقدم.

أنا مثلا في حينه لم أكن أسمع كلمة ليزر، لكن العمل الذي كنا نقوم به في جامعة الاسكندرية في ذلك الوقت كان ممتازا، ولكن ليس آخر ما توصل إليه العلم. علما انه كان لدينا مختبر، والدقة في العمل موجودة، والأساتذة يحاضرون بطريقة صحيحة والمناخ العلمي متوفر.

وفي أميركا ـ ينفي زويل ـ ان يكون قد واجه مشكلة ازدواجية الجنسية: بتاتا، لأنني أنظر إليها نظرة واقعية وإنسانية، وأقول انها ولدت في مصر حيث تكونت شخصيتي، وبصمات مصر واضحة فيّ، هي علمتني التعليم الأولي، فأنا مصري وعربي. ولكن في الوقت نفسه أميركا أعطتني الفرصة والتقدير، ولذلك أحترمها لكل ما قامت به لأجلي، ومن حسن حظي أنني أجمع من الاثنين، أفضل ما يتمناه أي إنسان ولا أملك مشكلة ازاء ذلك. وعندما تسلمت جائزة نوبل سألت نفسي السؤال ورددت انني أشعر أنني مصري وأميركي في الوقت ذاته، لم يحصل صدام بين الهويتين، يمكن ان يكون السبب انني لا أدخل في مناقشات في السياسة والأدب وغيرها، ولا أريد أن أضيع حياتي في هذه الأمور. أنا ركزت على العلم وواضح لي تماما لماذا ذهبت الى أميركا وماذا أفعل هناك.

قضية العلم في الدول العربية

يضيف: أحمل في جولاتي العربية قضية اعتبرها مهمة جدا، الى الرؤساء الذين التقيهم. وتتركز هذه القضية على أمرين. أولهما انني أتحدث إليهم بصراحة حول أهمية البحث العلمي والتكنولوجيا في العالم العربي، وأشدد على ضعفه في المنطقة، وهذه رسالة احتاج الى إثباتها، لتبيان كيف ان البحث العلمي ضعيف، وأيضا أود التوضيح للناس الذين التقيهم أهمية ذلك بالنسبة لمستقبل الأمم.

الآن يتم استيراد التكنولوجيا وشراؤها، كل العالم العربي يقوم بذلك، ويحصل على أحدث التقنيات في الخليوي وسواه الى الحد الذي اعتقد جازما ان هذا الجهاز أكثر انتشارا في لبنان منه في أميركا.

الرسالة الثانية التي أحملها معي هي كيف نبني قاعدة علمية أساسية. إذا لم تكن لدى الحكومات القناعات الراسخة بأهمية دور العلم والتكنولوجيا، فإن القطاع الخاص لا يستطيع بناء هذه القاعدة، اعتقد ان البحث والقاعدة العلمية تحتل انعكاسا لارادات الشعوب، لذلك وقف جون كنيدي يوما في الستينات واعلن ان اميركا ستصعد الى القمر، اي انه كان يشعر بالدور الفعال والمهم لوضع اميركا على الخريطة العلمية العالمية. هذا القرار دفع بالقطاع الخاص الى المساهمة، اقول انه اذا لم تكن هناك ارادة قوية من الحكومات والشعوب لا تستطيع ان تقوم بشيء، ثم ان القطاع الخاص في العالم العربي جديد في عملية التمويل للبحث العلمي والتكنولوجيا، علما انه يستفيد منه ربحيا، وهذه تحتاج الى وقت للتعود عليها.

ردا على سؤال كيف يبني د. زويل القاعدة العلمية لو كان في موقع المسؤولية يرد: لو كنت مسؤولا لخططت لوضع البلد خلال خمس سنوات على الخريطة العلمية العالمية. اولا ابتكر نظاما جديدا يتطلب وجود اماكن مضيئة للبحث. لا استطيع ان ادخل على النظام العلمي الآن، واقول سأغير المختبرات وغيرها ولدي ألوف من اعضاء هيئات التدريس في الجامعات ولا اعرف ماذا افعل بهم وهم خارج التطورات او ابحاثهم ضعيفة، لذا ارى انشاء مدينة علمية وادخل فيها اعظم العلماء واعطيهم ما يستحقون، ثم ابدأ بالجامعات والكليات بحيث تتغير انظمتها وبهذا نرفع العلم والتكنولوجيا الى المصاف الجديرة به.

ولكن هل المناخ العام يسمح بذلك؟ يجيب: نقوم بكل هذه الامور رغم ان المناخ غير مهيأ، اميركا كانت قرية في العلم بالنسبة لالمانيا، ثم بدأت تكون القاعدة العلمية وتأتي بالعلماء، الهند اليوم تشغل الرقم الثاني في العالم بالنسبة لـ”سوفت ورد” في مجال الكومبيوتر، بلاد آسيا الشرقية ايضا، هذه مسائل لا علاقة لها بموضوعات السياسة والديموقراطية، النظام السياسي يختلف في جميع البلدان، الصين الشعبية كانت الرقم الاربعين في قائمة البحث العلمي وهي دولة شيوعية او اشتراكية، الان تحتل الرقم الخامس او السادس، الدولة في الصين مقتنعة بضرورة البحث والتقدم العلمي.

لا تستطيع ان تشغل باحثا في مجلس او مركز علمي وتعطيه ثلاثماية جنيه في الشهر، كيف سيعمل لك وهو يحتاج الى جو مهيئا، وتفرغ لابحاثه، مثلا انا اذا كانت حرارة جسمي غير مستقرة لا استطيع التفكير.

التكنولوجيا والعروبة

يعترف زويل ان حظه كان جيدا عندما حصل على جائزة نوبل في مثل هذا السن “اذ انني لا اريد ان افقد العلم الذي اعمل فيه، هناك امور اريد ان اكملها في العشرين سنة المقبلة، وبالتأكيد سيكون ذلك في اميركا التي منحتني مع مجموعتي العلمية الفرصة للقيام بأبحاثي، هذا الوضع يتيح لي الفرصة التي لا تعوض لمساعدة المنطقة العربية، اريد القيام بما من شأنه مساعدة وطني والدول العربية الشقيقة، لذا ازور هذه الدول وأقابل الرؤساء ومسؤولي القطاع الخاص واتعلم لغة الناس، وكلي امل ان اتمكن من انشاء ثلاثة مراكز في ثلاث دول عربية كرمز للوحدة العربية في العلم ومن خلال زياراتي اعتقد ان هذه المراكز ممكنة في كل من مصر ولبنان واحدى الدول الخليجية مع وجود رابط بين هذه المراكز واستمرار حفز سواها لتحقيق المزيد من مراكز الضوء…”.

وردا على سؤال حول قلة عدد النساء اللواتي حصلن على جائزة نوبل، اعاد زويل ذلك الى امور عديدة كالأمومة، ولكن في غضون الخمسين سنة المقبلة سيتغير الامر، ويصبح افضل بالتأكيد، وستكون هناك عربيات من بين المرشحات، طالما ان اكثر المتخرجين هم من الاناث، وهن من الأوائل.

وبالعودة الى دعوته لإنشاء نظام بحث علمي عربي وسط طوفان في الامية يقول زويل: ما ادعو اليه لا يستطيع ان يعتمد على كامل الشعب لتحقيق التقدم، هناك افراد يمكن الاعتماد عليهم كأعضاء في هيئات التدريس في الجامعات والطلاب الباحثين للقيام بالتغيير، مثلا في الهند هناك اناس يموتون من الجوع، ولكنها دولة متطورة من الناحية العلمية وقد قامت بتصنيع قنابل ذرية، وفي اميركا هناك اناس يبحثون عن غذائهم، بين النفايات وقد شاهدتهم بأم العين، ولكن اميركا تسيطر على العالم كله تكنولوجيا، رغم ما يقال عن شيوع الامية في العالم العربي والاعطاب الكثيرة، الا انك تستطيع تحقيق ذلك اذا ما توفر النظام الصحيح الذي لا يهدر الطاقات ويحقق امل الناس بما تفعله.

والنظام الذي يتحدث عنه زويل يحتاج الى مشروع وطني عام يسميه الارادة الوطنية، وهذه الارادة يجب ان تعمل على توطيد القاعدة العلمية السلمية الموجودة في البلد ككل، دون ان تنحصر او تتوجه نحو الاغراض السلمية، فالقاعدة العلمية يمكن التوجه بها نحو الطب والصناعة و.. اذ ان الخدمة الالكترونية الموجودة مثلا في لبنان تحتاج الى هذه القاعدة، لانه ليس المهم شراء وبيع الكومبيوتر بل تصنيعه وتطويره وتصغيره اكثر لبيعه بسعر ارخص، وهذا لا يتحقق إلا عبر إنشاء الأماكن المضيئة واعطاء الناس الفرصة والتقدير، وعندها يمكن ان نحصل على نتائج عظيمة.

المفقود موجود

ولكن اذا كانت الجامعات معطوبة ومراكز البحث العلمي غير موجودة والبحث شبه مفقود كيف يتحقق هذا الاستنهاض؟

يجيب زويل: ينقصنا شيئان مهمان، وللحظ فإن العالم العربي لا زال لديه الطاقة البشرية المهمة، ففي مصر ولبنان يوجد علماء، ولكن لا نعرف عنهم شيئا، فقد يئسوا من النظام، وسنجد تقنيين واداريين واعلاميين مهمين، وهناك ايضا الثروة المالية المتوفرة في العالم العربي، بدليل البذخ الحاصل والمصاريف العشوائية بأرقام خرافية، بينما نحتاج الى ان تفهم الشعوب اهمية العلم والتكنولوجيا التي تلعب دورا حاسما في حياتها، كما اننا بحاجة الى نظام يشجع العلماء على التداول فيما بينهم، ثم ان الحافز العام متوفر بدليل ان الناس تسعى جاهدة لتأمين التعليم لأبنائها وتحرم نفسها الضروريات، ثم ان ثمانين في المئة من طلاب مصر الاوائل، وكذلك سواها، هم من اولاد الفلاحين الذين يفدون من الارياف للمدن للدراسة، ودورنا نحن يتحدد في تنظيم هؤلاء الاوائل والافادة منهم، وهذا يتحقق ايضا عبر الانتقال من جهد الباحث الفرد الى فريق العمل، الذي يعمل ضمن مناخ علمي صحيح. عندما ذهبت الى اميركا كنت فردا، لكني تعلمت شيئا مهما اسمه فريق العمل، وفهمت ان سر النجاح هو العمل الجماعي، وان الكل في واحد والواحد في الكل، وقد كنت خلال عملي في البحث الذي نلت عليه جائزة “نوبل” اقود فريقا مكونا من 150 شخصا، وضمن نظام ونسق يحفظ حقوق الجميع، الطالب الذي يعمل معي معروف من هو، وكذلك الاستاذ، من هذا العدد هناك حوالى خمسين نابغا يدرسون حاليا في مختلف انحاء العالم، من تايوان الى هارفرد الى بيركلي وغيرها من الجامعات، حيث اصبحوا اساتذة يدير كل منهم فريقا علميا. لكن الاساس هو النظام الذي يتيح معاملة كل منهم باحترام مع اعطائه الفرصة.

اذن يلح زويل على تجربة “المراكز المضيئة”، وقد سبق وحاول محمد عبد السلام الحائز ايضا على جائزة نوبل انشاء مركز في تركيا، لكن نضوب التمويل ادى الى فشل المحاولة. ولذلك يقول: اعرف تجربة عبد السلام وهي مختلفة، فقد كان يجمع الاموال من الشرق والغرب، على اساس احضار الكفاءات من الدول النامية ويعمل على تطويرها. التجربة التي اعمل عليها الآن مختلفة كثيرا. فهي قاعدة للتكنولوجيا والاعمال البحثية المتقدمة. لكن هل انا متأكد من عملية التمويل؟ يسأل زويل ثم يجيب: اكيد لا، لذلك اقول انه من غير الممكن ان تنجح المحاولة، الا مع وجود تمويل سابق وخارج نطاق أي حكومة بأقصى قدر ممكن.

هذه الاستقلالية المالية، تختلف عنها في اميركا، كما يعرف زويل ويقول: في اميركا توجد صناعات كبيرة، والابحاث العلمية تولد صناعات، وتحقق ارباحا للشركات، يرافق ذلك اهتمام رسمي بذلك. المثال ان الرئيس الاميركي سيعلن في غضون الايام المقبلة عن اكتشاف الخارطة الجينية للانسان، تصور بعد هذا الاعلان اهتمام رجال الاعمال الذين سيهجمون على هذا الاكتشاف لتحقيق مليارات الدولارات لهم ولأميركا.

الجامعات وإلحاح التغيير

السؤال الملح هل الجامعات العربية قادرة على حمل التحدي الذي يطلقه في وجهها د. زويل؟ يجيب: التعليم في العالم العربي يحتاج الى دراسة وتغيير كبير جدا. فهناك نظرية الحشو والدراسة الاكاديمية النظرية، والمطلوب هو الدراسة العلمية التي يعرف بموجبها الطالب ما يدرس ويطبق ميدانيا ما يتعلمه. مع ذلك يمكن ايجاد طلاب يملكون مؤهلات علمية يتم الإفادة منهم والاعتماد عليهم. إذ ليس مستحيلا ان نجد الفي طالب ثانوي في مصر ومثل هذا العدد في لبنان ثم نعمل على تأهيلهم لتسير الامور بشكلها الطبيعي. والمؤكد ان هناك مشكلة في نظام الجامعات ويمكن اختراق ذلك، عبر خطوة جريئة، فعند اختيار الفي طالب من حملة البكالوريا او الثانوية العامة يتم اعطاؤهم دروسا معينة في اختصاصات محددة، وبذلك نفتح المجال امام نابغين في مجالات العلم الواسعة. وأرى ان ذلك لا بد وان يتم خارج نطاق مكتب التنسيق او الحكومة كليا. اولا علينا اخذ الطلاب من مرحلة البكالوريا وإجراء الفحوصات اللازمة لهم، ومن ثم توزيعهم كل حسب ما يبدع فيه. وليس مجموع العلامات هو الذي يقرر، اذ ان اكبر المشكلات التي تحصل في العالم العربي هي ان الطالب يتجه للتخصص في مجالات لا تطابق قدراته. إذا استطعنا اختيار الطلاب النابغين نحصل على النتيجة المتوخاة. وأرى انه لا بد من تطبيق الطريقة المعتمدة في اميركا وهي المقابلة الشخصية وليس الامتحان الخطي، لأن المقابلة تكشف مدى قدرة الطالب على العطاء وهواياته ورغباته وتعلقه بعلم من العلوم وما هو الاختراع الذي نفذه، وعلينا ان نحترم آراءه وأفكاره ومن ثم نعمل على توجيهه حسب قدراته ومؤهلاته.

علم الأطياف والفمتوثانية

وزويل انجز رسالة الماجستير في جامعة الاسكندرية عن علم الاطياف. ويشرح هذا العلم قائلا: نحن نعيش في عالم غير مرئي، والطيف علم قديم عمره اكثر من مئتي سنة. فمثلا كل إنسان له صوت ونغمة تستطيع ان تميزه بها، والعملية ذاتها تنطبق على الذرات في العالم غير المرئي. اذ ان لكل ذرة نغمة (موجة صوتية طويلة) بينما الذرة او الجزيء له نغمة سريعة جدا، بحيث ان الاذن لا تستطيع سماعها، ويجب استعمال اجهزة لتحليلها، وعندما نسلط الضوء على كل منها تحصل على نغمة مغايرة. وبعد التحليل بواسطة الاجهزة الالكترونية نعرف كيفية تحركها وعملها.

يربط زويل بين هذا العمل وما انجزه على صعيد الفمتو ثانية قائلا:

قديماً كنا نضع الشخص امام آلة التصوير من دون حراك لأخذ صورة له، حاليا بات بالامكان تصوير اشياء تتحرك مقياس ألف من الثانية مما ادى الى فتح ابواب عالم جديد. ففي العالم غير المرئي الموجود في الخلية الانسانية او الهواء والماء هناك جزئيات تتحرك وتتفاعل مع بعضها البعض لكن لا نستطيع رؤيتها. فمثلا في سم مكعب من الماء هناك مليار مليار بليون من الجزيئيات، تكونها يعطينا هذا السائل. وسرعة هذه رهيبة وحجمها صغير جدا. ولتصوير هذا العالم غير المرئي استعملنا العامل الزمني الجديد الذي نطلق عليه “الغمتوثانية” وهو واحد على مليون من البليون من الثانية. وعند الوصول الى هذا الرقم تتوقف الجزئيات ونرى عندها تحركها بكل سهولة ويتم رصدها، ونعرف عندها لماذا تتحرك وكيف تعيش ولماذا تموت. والغمتوثانية تعادل بالنسبة للثانية 32 مليون سنة. وهي تساوي واحد على المليون من النانو ثانية (N.S) اي واحد وقربها 15 صفرا مقسمة على واحد.

زويل وإسرائيل

رداً على ما ذكرته احدى الصحف المصرية حول حياته لمدة سنة في اسرائيل وحصوله على جائزة وولف للعلوم والفنون من الرئيس الاسرائيلي عايزر وايزمن العام 1993 يقول زويل:

اود توضيح بعض الامور فقد نشرت احدى المجلات المصرية خبرا لا اساس له من الصحة، وقد تولى تكذيبه وزير الاعلام المصري صفوت الشريف والمجلة التي نشرت الخبر نفت ذلك في عددها الثاني على صدر الصفحة الاولى. وكل ما في الامر كان تكهنا بأن د. زويل سيحصل على الجائزة من اسرائيل وهو سوف يذهب الى هناك ويبقى فيها لمدة سنة لتدريس علوم اللايزر، علما ان الجميع في مصر كان يعلم ان رئيس الجمهورية المصرية حسني مبارك سوف يقلدني وسام قلادة النيل، وسبق ان قلت ان اول بلد سوف ازوره بعد حصولي على جائزة نوبل يجب ان يكون بلدي مصر، وهذا ما حصل ذهبت برفقة عائلتي الى مصر، ولكن للأسف كتب احد الصحفيين خبراً صغيراً، كما ذكرت، تعرض للتكذيب واعتذرت عنه الصحيفة المذكورة.

اما في ما يتعلق بالجائزة فالامر مختلف، فجائزة “وولف العالمية” تمنح لعلماء مرموقين في علومهم، وولف كان يعيش في كوبا وطلب ان تمنح لأفضل علماء العصر في تخصصات الفيزياء والكيمياء والطب وغيرها مع مبلغ من المال بشرط ان يتم التكريم في اسرائيل، وقد حصل على هذه الجائزة العديد من العلماء من اميركا وفرنسا والمانيا وغيرها.

وفي العام 1993 حصلت على الجائزة لاكتشاف الفمتوثانية وحدي. ففكرت بالامر من الناحية السياسية، وهناك معاهدة سلام بين مصر واسرائيل، ثانيا وكعالِم يجب ان افصل بين العلم والسياسة، وأنا اعلم ان الجائزة تمنح للناحية العلمية البحتة، وثالثا، لماذا انكمش ولا اقول رأيي، وهذا ما حصل فذهبت الى اسرائيل لأربعة او خمسة ايام وحصلت على الجائزة وقلت رأيي امام كل العلماء ووقتها كانت توجد مواضيع ساخنة كموضوع لبنان.
واستغرب لماذا نشر وقتها كلام انني عشت في اسرائيل لمدة عام.

لكن الموضوع نشر في الصحف المصرية؟

نشر الخبر في جريدة الاهالي ونقلتها جريدة اكتوبر، وعندما قابلت رئيس تحريرها رجب البنا بعد حصولي على قلادة النيل عبّر عن اسفه للخبر الذي نشر.

يعترف زويل بأن اسرائيل تملك قاعدة علمية حقيقية، “ونعرف ان من بين اهم المعاهد والمراكز العلمية الموجودة في العالم التي تعلن ابحاثها معهد وايزمن الذي يملك تجهيزات عالية التقنية وابحاثه علمية وتصدر عنه مجلات بحثية مرموقة. ويحدد ما يعرفه عن هذه الابحاث في مجال تخصصه كعلوم الليزر والطاقة الشمسية والبيولوجيا والرياضيات وغيرها…”.

يختتم زويل بالتأكيد انه خلال زياراته العربية وجد سيطرة لنظرية المؤامرة، بينما الصحيح هو ان الشعوب هي التي تقرر مصيرها. صحيح ان هناك قوى منافسة. هذا الامر ليس موجوداً فقط على مستوى الدول بل على صعيد الافراد ايضاً… لكن اذا قرر الشعب المضي قدما فإن احدا لا يستطيع ايقافه. المشكلة كما يراها هي عدم اعطاء الفرصة والتقدير لعلمائنا في العالم العربي، من خلال نظام يميزهم ويقدرهم ويسمح بالحصول على براءة اختراع ونشر ابحاثهم، ما انهي به انه لدينا طاقة بشرية قوية وعدد من العلماء الجيدين وطاقة مادية… اما اسرائيل فلديها القاعدة العلمية والنظام العلمي، ولا بد منهما كي نلغي الهوة التي تفصلنا وتقودنا الى هزائم… اذ ميدان البحث والنظام العلمي هو احد ميادين الصراع الأكثر ضراوة.

 

Exit mobile version