طلال سلمان

في حياتي رجل رمادي

نقرة على باب الغرفة بالكاد مسموعة انفتح على أثرها فتحة سمحت لرأسها بأن تطل وتعتذر وتستأذن فتدخل بكل جسمها وتحيينا جميعا بهزة رأس ثم توسع لنفسها مكانا بين اثنتين وتجلس. دارت بعينيها تتفحص الجالسين دون أن تحرك رأسها ثم نظرت ناحيتي لتسأل عن السبب في أنني تأخرت في تعريفها بالضيوف وإن كانت تطفلت على الجلسة. لم تنتظر إجابة مني أو رد فعل. راحت تعرف بنفسها مؤكدة بين عبارة وأخرى أنها كانت تواظب على حضور هذه الاجتماعات حتى أن طرأ طارئ على حياتها جعلها تتخلف عن حضور عدد منها في الأسابيع الأخيرة. “أنا صديقة هذا المكان وتلميذة صاحبه” قالتها دون أن تنظر ناحية الكرسي عالي الظهر الذي كنت أجلس عليه. أعقبتها بنظرة استفهامية دارت بها على الجالستين اللتين تشاركانها الأريكة الجلدية ثم على الجالس على المقعد الوثير في ركن القاعة، نظرة تقول: “عرفتم من أنا والآن دوركم لأعرف من أنتم ومن أي خلفية أتيتم. انتهت جولة التعارف. الآن تعود الكرة الى ملعب صديقنا وراعي اجتماعنا”.

***

رحبت بعودتها بعد غياب وأطنبت في ذكر مزاياها ونقاط قوتها ثم أعلنت افتتاح الجلسة ومقترحا البدء فورا في طرح عناوين قضايا للنقاش. رأيت العيون تتجه بفضول واضح ناحية الصديقة القديمة الجديدة. الطريقة التي دخلت بها والمقدمة التي بدأت بها حديثها إلى جماعة لا تعرفها وإشاراتها المتكررة إلى أنها ابنة المكان وصديقته ثم تعمدها الإبلاغ عن طارئ طرأ على حياتها وتسبب في انقطاعها عن زيارة المكان وحضور اجتماعاته، كلها عناصر اجتمعت لتثير الفضول. على كل حال الطارئ دائما مثير للانتباه. قدرت فورا أن الجلسة لن تكون مثمرة إذا لم تكشف صديقتي عن خفايا الطارئ الذي اقتحم هدوء حياتها قبل أن نطرح اقتراحات بموضوعات لجدول أعمالنا. لحظات وكانت صديقتي تحكي حكاية الطارئ.

***

قالت “ذات عصر من أيام الأسبوع الماضي عاد والدي من مكتبه مبكرا عن موعده المعتاد ومتوجها مباشرة إلى غرفتي على غير عادته لينقل لي حرفيا نص ما دار بينه وشخص غريب على التليفون. طلب الغريب منه أن يأذن باستقباله في بيتنا ليتعرف في حضور والدي على الآنسة كريمته، التي هي أنا وليست شقيقتي الأكبر. قلت لأبي أنني لا أعرف رجلا بهذا الاسم وإن كان الاسم لا يبدو غريبا عني. قال أبي “ولكنه يعرفك ولم يشأ أن يفاتحك في النادي أو في المسبح قبل أن تتعارفا في حضوري. أنا أسمع عن أهله فمراكزهم متينة”. لم أفهم قصد والدي ولم أشأ أن أجره إلى نقاش سياسي واجتماعي حول مفهوم المراكز المتينة وهو للتو وصل من مكتبه ولا شك منهك. تعودنا في عائلتنا على عادة غير مستحبة كثيرا. نكاد لا نترك مفهوما جديدا أو غريبا أو مهجنا يدخل إلى بيتنا دون أن نتناوله تشريحا أو تفكيكا أو بالاجتهاد لإعادته إلى أصله وفصله. أشفقت على أبي فالرجل تكلف بحمل رسالة لي من نوع لم يعد مألوفا ومن شخص لا يعرفه ولكنه استنتج أن بين أهله من يحتل مراكز متينة. قال متينة ولم يقل مرموقة.

***

دق جرس الباب في الموعد الذي حدده الطرفان، الضيف ووالدي. كنت طلبت من أهل البيت وخدمه ألا يفتح الباب غيري. فتحت لرجل ببذلة رمادية وقميص أقل بياضا مفتوح عند الرقبة. أوسعت له المكان ليدخل. ارتبك قليلا. كان يحمل علبة أنيقة محشوة بأوراق زهور بيضاء تردد قبل أن يقرر أيها يأتي أولا، يمد اليد الحرة للتحية أم يمد اليد التي تحمل ورق الزهر. لم أشأ إطالة فترة الارتباك وتدخلت. قدمت نفسي لأتلقى في المقابل هزة من رأسه وابتسامة من فمه. مشيت أمامه نحو غرفة المكتب والمكتبة. دخلت ودخل ورائي. استدرت فجأة فارتبك. هدأت من روعه مشيرة إلى مقعد مريح. لم يجلس على الفور إلا بعد أن جلست. اخترت لي مقعدا يناسب فستانا ارتديته خصيصا للمناسبة واخترت له مقعدا يناسب موقع مقعدي.

***

أنا لا أحب اللون الرمادي. تصوروا فتاة لا تحب اللون الرمادي فيكون من حظها أن تقضي أسابيع عدة متصلة في صحبة رجل، هو نفسه رمادي الصفات والطباع والسمات. أنا مصرية سواحلية وبالتحديد، إسكندرانية. ولدت ونشأت وتربيت في طقس مواسمه بالغة الوضوح. عشنا نميز بكل الحب والحسم معا بين الألوان. نحب الألوان الصريحة. نحب ألوان قوس قزح وهي زاهية. نحب الأزرق ولا مانع لدينا من اختلاط الأزرق بالأخضر عند الظهيرة أو عندما يجتمعان لمحو نهار بدأ عند الصباح رماديا. نحب الألوان براقة، نشفق عليها من سحابة قادمة من الغرب بلونها الرمادي لتطفئ لمعان ألواننا التي نحبها. نضجنا نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية. لا يضيرني أن أقول أن الرمادي هو لون عالم حزين. لكنه أيضا، وفي نفوسنا جميعا، لون الوقار الذي نحترم، وفي السياسة نعتبره لون الحياد المتوازن. أحترمه وأقدر دوره ولكني لا أحبه.

***

ألا تشاركونني الرأي، وأنت أولهم يا أستاذ، في أن الرمادي لا قلب له أو عاطفة. لا يلتزم ويكره أن يطلب منه الاختيار بين لونين أو موقفين أو رأييين. اتهموه القدامى بأنه يكره الاختلاط بالألوان الأخرى ويفضل أن يكون خارجا عنها. كت أسمع حتى تأكدت بنفسي من أن الرماديين لا يشعرون بعاطفة قوية تجاه لونهم المفضل. لا يعشقونه كما يعشق محبو الأحمر أو الأزرق لونهم. وعلى كل حال عرفت أيضا أن الرجل الرمادي لا يكون بسهولة رأيا قويا في الأشياء حبا أو كرها. ومع ذلك تجدونه يفرش سريره باللون الرمادي، فالرمادي لون الزهد وربما الكبت. كدت أكثر من مرة أنبهه إلى أنه أيضا لون الموت.هو بالتأكيد صوت السكون إن كان للصمت والسكون لون. قيل فيه أيضا أنه لون الشجر الميت على أطراف المدن المهجورة، هو اللون الذي تفضله صور ما بعد الكارثة والحرائق والطوفان. هو بالفعل اللون الذي أذكره كلما جئنا في مناقشاتنا سيرة الثورة الصناعية أو لندن في القرن التاسع عشر. يبالغون فيقولون إن الشاب الصاخب والبهيج إن هرم صار شيخا رماديا. الحقيقة هي أن أحدا منا لن يفلت من اللحظة الرمادية.

***

نقلوا عن آندريه جيد قوله إن الرمادي لون الحقيقة. الأصل في الألوان هو الرمادي وليس أي لون آخر. الألوان الطبيعية التي تتلون بها صور هذه الأيام ما هي إلا غزو للحقيقة واعتداء عليها. هكذا دفاعهم عن الرمادي. يعتقد المدافعون أن الألوان تبالغ وفي النهاية تصبح متعبة للعين التي سرعان ما تلجأ إلى الرمادي ترتاح في حضنه البارد. نحن حين نحن إلى الماضي نلجأ إلى مذكراتنا، أي نلجأ إلى سجلاتنا التاريخية، إلى الأبيض والأسود بجميع أطيافهما الرمادية. لا نلجأ لذكريات بالأزرق أو الأحمر أو البنفسجي.

***

صديقي الأستاذ: أطلت عليك وعلى زملاء ألحوا ليعرفوا. أما النهاية فأدعوكم للمشاركة في صنعها. لقد قبلت الرجل الرمادي زوجا تحت التجربة وهو الآن ينتظرني في الصالة الخارجية لأعرفكم عليه.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

 

 

Exit mobile version