طلال سلمان

في أمريكا وبقية العالم يتقرر الآن مستقبل الصحافة

“نحن فواعل التاريخ، ما نفعل وما نقول هو الحقيقة. نخلق الجديد كل يوم، بل كل ساعة. نحن نفعل وأنتم تكتبون أو تذيعون وتبثون”. هذه العبارة المنقولة من مقابلة أجراها صحافي معروف مع مسؤول في دولة كبيرة تحمل عديد المعاني لمفهوم الصحافة عند بعض المسؤولين من ذوى الميول اليمينية. تحمل أولا معنى أن ما يقوله الزعماء ومساعدوهم من المسؤولين حقائق لا تقبل التشكيك أو التدقيق علما بأنهما الوظيفتان اللتان لا تقوم صحافة بدونها. تحمل ثانيا معنى أن الصحافة، بكل أنواعها التقليدية والعصرية، لم تكن لتوجد لو لم يكن هناك زعيم ومسؤولون آخرون يفعلون ويقولون. بدونهم لن يجد الصحافيون ما يفعلونه، بدونهم لا معنى ولا ضرورة لوجود صحف وصحافيين. تحمل ثالثا معنى أن لا شيء أو كائن آخر في الدولة يصنع “حقيقة” إلا الزعيم ومن يساعده من الموظفين الكبار، لا اعتبار لمجتمع أو مؤسسات أو أفكار، ولا “حقيقة” إلا ما يصدر عن الدولة ممثلة في حكومتها رئيسا ووزراء ومساعدين، ما يصدر من خلالهم أو بسببهم. هم الذين يصنعون الواقع وواجب الصحافي التبشير بهذا الواقع الجديد والتعامل معه كحقيقة.

جرت هذه المقابلة في دولة ديمقراطية تزعمت لعقود عديدة الدعوة لاحترام الحريات ومبادئ الفصل بين السلطات، جرت في الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس بوش الصغير، أجراها الصحافي رون ساسكيند مع مسؤول كبير في البيت الأبيض. وقتها كان المحافظون الجدد يهيمنون على عملية صنع السياسة، أكثرهم نشأوا في مرحلة صعود اليمين في عقد السبعينيات ثم في أحضان رئاسة دونالد ريغان. سادالظن بعدها أن هذا التيار كان يمثل أقصى ما يمكن أن يصل إليه التطرف اليميني في الولايات المتحدة، ساد الظن أيضا بأنه بسبب الفشل المريع الذي لحق بالتدخل العسكري الأمريكي في العراق، فإنه، أي هذا التيار، سوف ينسحب من دائرة الحكم وينحسر من السياسة الأمريكية عموما، وقد حدث. حدث فعلا أنه انسحب مع عودة الليبراليين إلى الحكم في عهد الرئيس باراك أوباما وانحسر نفوذه في مؤسسات الدولة. انسحب وانحسر ولكن ليحل محله، ويكاد يهيمن، يمين أشد تطرفا وتعصبا حمل إلى الحكم في واشنطن الرئيس دونالد ترامب وجماعاته، ومن بينها أو على رأسها الجماعة المنتسبة إلى بريتبارت، الصحيفة الإلكترونية الشهيرة.

كان متوقعا منذ اليوم الأول في الحملة الانتخابية أن الصحافة الأمريكية، وأقصد بالصحافة كافة أجهزة الإعلام، أن تهتم بتغطية أخبار المرشح دونالد ترامب، هذا الرجل الدخيل على الحياة السياسية وبخاصة بعد أنتنكر له الحزبان الجمهوري والديمقراطي وسخر منه عديد أفراد النخبة الحاكمة في أمريكا. أدرك ترامب منذ البداية أن الصحافة سوف تكون عدوه اللدود في الحملة الانتخابية وأن انتصاره الحقيقي في النهاية لن يقتصر على فوزه في الانتخابات، فمعركته مع الصحافة سوف تستمر شرسة حتى وهو رئيس للدولة. عرفترامب، كما عرف ويعرف كثيرون من الحكام في أمريكا وخارجها أن الفوز النهائي والمطلق للحاكم لن يتحقق إلا بتحقيق النصر في معركته مع الصحافة.

*******

 أعتقد أن تاريخ الصحافة كمهنة سوف يتوقف عند هذه المرحلة باعتبارها واحدة من أهم مراحل التحول في تاريخها. هي المرحلة التي اجتمعت فيها جملة تطورات من داخل المهنة مع جملة تحولات سياسية في شتى أنحاء العالم مع لحظة صدام عنيف مع رئيس أكبر دولة ديمقراطية. هو في الحقيقة صدام يستحق وصفه بمعركة تكسير عظام وفي رأي كاتب هذه السطور هو الصدام الذي سوف تحدد نتيجته مصير هذه المهنة ليس فقط في أمريكا بل في العالم كله. أذكر كيف أن محللين أمريكيين عديدين قرروا خلال الحملة الانتخابية الأمريكية أن المرشح ترامب لن يفوز ليس لكونه أميا في السياسة الدولية، أو على الأقل غير ملم بمجاريها وقضاياها، وليس لكونه يمثل الفئة الأسوأ سمعة في قطاع رجال الأعمال، وهو قطاع المراهنات والقمار وتجارة النساء والصفقات المشبوهة في الداخل والخارج والمتهربين من دفع الضرائب، وليس لكونه لا ينتمي لحزب من الحزبين الرئيسين أو لأنه لم يتول منصبا سياسيا في حياته، وليس لكونه غير معتمد على تمويل مالي كبير من جماعات ضغط أو قوى مالية نافذة، إنما قرر هذا البعض من المحللين أنه لن يفوز لأنهم تأكدوا من حقيقة أن أكثر من 360 صحيفة أمريكية أعلنت تأييدها للمرشحة هيلاري كلينتون بينما لم تؤيد المرشح ترامب على امتداد الولايات المتحدة طولا وعرضا سوى إحدى عشر صحيفة لا أكثر، هذه النسب نفسها امتدت إلى شبكات التلفزيون الأمريكية والدولية وغيرها من وسائط الاتصال، حتى أن شبكة فوكس نيوز، ذات الميول اليمينية تخلت عنه لبعض الوقت.

*******

لم يكن متصورا أن مرشحا في دولة تقوم فيها الصحافة، مقروءة كانت أم مرئية أم مسموعة، بدور رئيس في صنع وتوجيه الرأي العام يفقد ثقة هذه الصحافة ورغم ذلك يفوز في الانتخابات. لا شك أن نية مختلف الأجهزة الإعلامية كانت قد استقرت على تجاهله. ولا شك، أن دونالد ترامب نجح باستخدام أساليب تميزت بإبداع وقدرة على الابتكار ليجبر الصحافة على التعامل معه وتغطية حملته الانتخابية بحماسة تفوق تغطيتها حملات بقية المرشحين. من هذه الأساليب، التي ربما يكون قد استخدم أحدها سياسي أو زعيم آخر في مكان آخر من العالم بدرجات متفاوتة من النجاح، أنه اعتمد على خبرة اكتسبها من إدارته لبرامج تلفزيون الواقع. اكتسب مثلا خبرة توظيف كلمات بعينها تنطلق من فمه كطلقات رصاص تصيب من تصيب من المشاهدين، تنتزعهم من مقاعدهم وتثير توترهم وتربك تصرفاتهم. هذه الكلمات لا تصدر عن سيناريو مكتوب سلفا أو معد خصيصا وإنما تلقى تلقائيا وبدون الأخذ في الاعتبار احتمال وجود أطفال أو نساء أو حضور لهم حساسيات خاصة.

*******

استخدم أيضا الكذب ولكن بإبداع وطلاقة. لا شك عندي في أن خبرته في تلفزيون الواقع وفي عقد الصفقات ساعدته على اكتساب القدرة على المراوغة والخداع دون الشعور بأي درجة أو نوع من الحرج أو الخجل. هذا الرجل يكذب كما يأكل ويشرب. ولكن كذبه ليس كالكذب المألوف أو العادي، بل هو الكذب الصادم. قيل إنكذبه يجبر المستمع أو المشاهد على أن يفكر مرتين، ويجبر كل صحافي يحترم مهنته أن يترك ما في يده من قضايا أخرى ملحة ليلجأ لمصادر يدقق عندها قبل النشر في صحة أو زيف ما صدر عن ترامب، وقبل أن ينتهي الصحافي المحترم من تدقيقه أو قبل أن يعود لينتبه لعمله في مكان آخر أو في قضية أخرى يكون ترامب قد ألقى بقذيفة أخرى، أقصد كذبة أخرى. هكذا فرض ترامب نفسه على الصحافة خبرا أوحد وقضية لا تنافسها قضية أخرى. أجبر الصحافة الأمريكية على أن تتفرغ وتتصدى له أمام الرأي العام خصما في معركة لا هوادة فيها.

ثالثا، استخدم سلاحا لم تتقن استخدامه بعد الصحافة الأمريكية خاصة والعالمية عامة. استخدم الرسائل القصيرة المعروفة بالتغريدات كقنابل متفجرة يستيقظ على دويها الرأي العام وأجهزة الإعلام، كلهم معا وفي وقت واحد. هكذا احتفظ بالمبادرة في صراعه مع الصحف. عرف أن الصحف لا تقوى على الرد في لحظتها، وغير مؤهلة للرد بمثل هذا الإيجاز، وغير مزودة بالأعداد الكافية من المحررين الجاهزين لمهمات التحقق والتدقيق في هذه الرسائل القصيرة المتلاحقة. عرف أن الرأي العام لا يرحم المقصر ولن يصبر في انتظار نشر مقال طويل أو تحقيق مستفيض يرد على رسالة اطلقها ترامب في الصباح الباكر وفي الغالب نسيها، أو أطلقها عند نزول الليل وترك الصحفيين يسهرون ليتحققوا ويدققوا ثم ليفاجئهم عند الفجر برسالة تفجر موضوعا مختلفا كل الاختلاف.

*******

 رابعا، استخدم، منذ بداية الحملة الانتخابية، قضية كان يعرف أن الصحافة أهملتها وهي قضية عمال الصناعات الثقيلة. خلف إهمال الصحافة ضغينة لدى هؤلاء العمال العاطلين عن العمل إما بسبب انتقال صناعات إلى المكسيك ودول أخرى أو بسبب التحول العام نحو استخدام الإنسان الآلي وتكنولوجيات أخرى حديثة. المهم أن ترامب استطاع تأليب قطاعات عديدة في الرأي العام وبخاصة المسيحيين الإنجيليين وكثير من البيض من سكان الجنوب والوسط ضد الصحافة، وبخاصة الموصوفة بالليبرالية.

*******

أكرر هنا اقتناعي بأن الدائر في أمريكا حاليا هو حرب تكسير عظام بين ترامب شخصيا وجماعته من جهة والصحافة بمعناها الواسع من جهة أخرى. أكرر اقتناعا آخر، وهو أن هذه الحرب لن تنتهي بفوز ساحق لطرف على الآخر. لا أتصور الصحافة بوضعها الراهن في العالم كله، كصناعة منهكة ومرتبكة بسبب صعوبات وتكليف التأقلم مع تطورات جذرية في المهنة وتحت واقع الضربات العنيفة والمطاردات المستمرة من جانب السلطة الحاكمة، تستطيع تحقيق فوز حاسم على حكومات شعبوية وزعماء شعبويين أغلبهم يمثلون تيارات يمينية صاعدة. في الوقت نفسه لا أتصور أن هذه الحكومات والزعماء الشعبويين قادرون على تحقيق فوز حاسم على الجماعة الصحافية في دولهم. دافع اقتناعي بسيط، وهو أن الشعبوية حالة مؤقتة بحكم التعريف، والصحافة، بالمعنى العام الواسع، حالة متجددة بحكم التعريف. الحرب بينهما قدر مكتوب وتكلفة باهظة تدفعها الشعوب ووقودها الصحفيون في كل مكان.

Exit mobile version