طلال سلمان

فلنحلم قليلاً جداً: الكوابيس تفترسنا

فلنحلم قليلاً. أو، فلنحلم أقل. يصعب ذلك كثيراً. حتى الحلم يبدو مستحيلاً. من أين يبدأ الحلم؟ من أي رصيف؟ من أي موقع؟ من أي واقع؟ من أي تفاؤل؟ من أي أفق؟

أعترف بصدق، بأن حلمي ولد ميتاً. لم أوفّق بموطئ قدم، ولا بموطئ فكرة، ولا بنقطة إنطلاق. كل الطرقات مقطوعة إلى الأمام. لا أفق قريباً أو بعيداً. أنني أعلن فشلي في “تأليف” حلم صغير، لشعب كان ماهراً جداً في تحطيم المراكب وإقفال الطرق وتلغيم المحاولات وإفشال التجارب وتبخيس النوايا وتلوين الأفق بالأسود الدامي… أعترف بأني فشلت، برغم إقناع نفسي بأن اكذب على نفسي قليلاً، و”أمشي” الحال، لعل إبتسامة ضئيلة ترتسم لي في البداية، كي أجازف بالإقلاع من ساحات اليأس والمآسي إلى بصيص صغير من الأمل.

لم أفلح… اقترحت على نفسي أن أكذب قليلاً. أن أبدأ من مكان ما، من حالة ما، من واقع ما، من كذبة ما.. حاولت وبليت بالعجز. حتى مخيلتي التي ألجأ إليها أحياناً، كانت مصابة بصدأ مزمن. إنها مخيلة معبأة بالمآسي والأفشال والأحزان.

قلت: فلأختر بلداً غير لبنان. لبنان هذا بلغ خاتمته ونهايته. فلماذا لا نبدأ من فلسطين: الجواب الفوري كان بائساً. يائساً جداً. “الوطن الفلسطيني الصغير جداً”، لم يعد وارداً. فلسطين العاصية جداً، تعبت من خيانات أشقائها، ويئست من مفاوضة أعدائها. ليس هناك إلا خريطة التراجع. والصمود الذي يبديه شعبها لا يترجم ميدانياً. ترجمته الوحيدة: أننا ما زلنا أحياء في هذا الجحيم، ولا نوقع على استسلام تام. “إسرائيل”، ومن معها من “الأشقياء العرب” يتقدمون إلى مواقع، لم يكن أحد يرضى بها. ستصير “إسرائيل” عاصمة العرب السياسية. فمن أين يبدأ الحلم الفلسطيني. شعب شاهق الظلم. عمره قرن. وعرب أشقاء في كل واد يهيمون.

دول ودويلات وإمارات الخليج تحتفل بخروجها من تاريخها إلى تاريخ لم يكن أحد يتصور حدوثه، إلا “إسرائيل” ربما. التطبيع، كما يبدو، لم يكن مفاجئاً لأصحابه، بل كان كامناً ومؤجلاً. مصر دشنته. الأردن قلدها. بات الطريق إلى تل أبيب ممراً إلزامياً لبلوغ واشنطن. ومن بلغ واشنطن، وقَّع على التنازل برحابة صدر، وبشجاعة التحدي للمصابين بعشق الوطن الفلسطيني المأمول، ولو بعد فائض الأحزان والتراجعات.

عن ماذا نتكلم؟ لا ضرورة لزيارة العواصم العربية وسؤالها إلى أين؟ العنوان يقرأ من المشهد السوري. أين سوريا اليوم؟ ماذا تستطيع؟ كيف تعود؟ كم سنة بعد من الحرب والإحتلال والتقسيم والندرة والحصار والعقاب؟ كم سنة بعد من إستعادة ألفبائها. لقد محت الحرب المستقبل وأقعدتها في الحاضر والآني. والخروج من ذلك الجحيم ثمنه “التطبيع”… فكيف نحلم بعد؟

هل العراق ملائم للأحلام المتواضعة؟ عراق ممزق من جميع أطرافه ومتصارع حتى في قلبه. العراق شتات من الناس والطوائف والأعراق، ومسرح صراع بين محاور، يدفع ثمنها الشعب العراقي. كم عراقاً في العراق؟ أين نفط العراق؟ كم يشبه لبنان في طوائفه ونزاعاته ونهب خزائنه ونفطه.

أمِنَ الخليج نبدأ؟ ضع صفراً وأمضي. لا يُعَوَّل على من يقوده أو من ينقاد منه. إلى آخر المنظومة، وتحديداً مصر والسودان وليبيا. كيف أحوال تونس الواعدة؟ ماذا عن الجزائر؟ ماذا عمن تبقى؟ لا شيء يدل على أفق. كل المؤشرات تدل على فقدان الحرية والديموقراطية والعدالة والمساءلة والمحاسبة.. قمع شرير، بأساليب خرافية، لإفراغ القارة العربية من شعوبها، عن تحويل الشعوب إلى قطعان من الناس تساق بعصا الشرطة.

مئة عام من عمر هذه القارة العربية، تدعوك إلى اليأس. فمن أين نبدأ أحلامنا الصغيرة. الصغيرة، الصغيرة جداً. ثبت بالوجه الواقعي الشرعي، أن هذه المنطقة، هي الإستثناء الساقط، في العالم. أوروبا الشرقية تغيرت بعد سقوط الإتحاد السوفياتي. صارت دولاً طبيعية وشعوباً على سوية الوطن والمواطن والحرية. أميركا اللاتينية تحررت كثيراً. لم تعد ملعباً سهلاً للإمبريالية الأميركية، دول آسيا تغيرت وصارت نموراً… إلا نحن. هذه المنطقة المنكوبة بفكرها وثقافتها وسياساتها وأديانها ونهبها وهلم جراً.

ها أنذا أعلن أنني فاشل في وضع جملة مفيدة لحلم صغير.

عذراً: أنا كائن لا أحلم. ولا طاقة لي على الأحلام، إلا إذا خرجت من وعلى هذه المنطقة برمتها. والذاهبة بسرعة إلى ممارسة العنف الأعمى.

من لديه ذرة تفاؤل، فليقلها. سأكون صادقاً في تبنيها، وأبني علها حلماً لأحفادنا.

لست من هواة اليأس، بل أنا واحد من ضحاياه، ولست الوحيد. فاليائسون أكثرية كبيرة من المحيط إلى الخليج.

اللعنة إذاً. هي الجائزة المناسبة.

Exit mobile version