طلال سلمان

فضيلة التواضع منحسرة

“أفتح خزانة ثيابي وأقف أمامها لحظة. أمد يدي لأسحب ما أنوي ارتداءه هذا اليوم. صدقني حين أقول لك أنني خلال اللحظة التي وقفت فيها أمام خزانتي مترددة بين أن أسحب هذا الفستان أم ذلك القميص لم يخطر على بالي شخص بعينه أو رئيس وزميلات وزملاء في المكتب أو سائق تاكسي وركاب في الأوتوبيس أو جارنا “عم الشيخ” المعمم وكثيرا ما نلتقي عند باب المصعد. تعودت أن أراعي فقط المزاج الذي أخطو بصحبته أول خطوة في مسيرة اليوم. إن راح مزاجي في اتجاه جونلة أو شورت فوق الركبة وقميص بلا أكمام لن أتردد ولن أراعي من خارج اعتبار المزاج سوى حالة الطقس. لا أظن أنني من النساء اللائي يخترن ما ترتديه الأخريات معيارا أو أراعيه اعتبارا. نعم أقف أمام المرآة وأمشي وأحاول أن أراني من ظهري قبل الخروج إلى الشارع. المرآة يا أستاذي رفيقتي التي لا تكذب. مرآتي تحمي فضائلي من حبائل التجاوز أو المبالغة. نشأنا معا ونضجنا معا ووضعنا معا منظومتنا الأخلاقية والجمالية واحترمناها. لم نتجمد عند مزاج معين أو أذواق عصر معين أو ثوابت أمي وخالتي، ولم نتقلب مع رغبات وتقلبات بنات مدرستي وزميلات المكتب وممثلات التلفيزيون”. انتهى الاقتباس.


رأيت طفلة بين أطفال تقلد في تصرف من تصرفاتها طفلا آخرا. تابعتها شهورا. تعلمت في المدرسة والبيت والجامعة أن الطفل يقلد ومن الخير له أن يقلد. هذه الطفلة كانت تقلد بحرص شديد يكشف عن نضج مبكر أو طبيعة متأنية وحريصة. كانت تختار ما تقلده ومن تقلده. تجرب ما قلدته لفترة ثم تعود عنه أو تبقى عليه بعد أن تكسبه من عندها ما ينسجم مع أسلوبها في اللعب أو الاختلاط أو الدرس. لم يكن التقليد طبيعة ثانية لها كحال أطفال آخرين في المجموعة نفسها. أعترف أنني كدت أقتنع بأنها طفلة مكتملة الطفولة وأصارحك في الوقت نفسه بأنني غير واثق من وجود معنى علمي ودقيق لهذه العبارة، طفل مكتمل الطفولة. أعرف أطفالا في عمر البالغات والبالغين وأعرف نساء ورجالا لم تكتمل طفولتهم ولم تشرع شخصياتهم في النضوج. الطفلة التي اتحدث عنها تعلمت أن تقارن يومها بأمسها وما أنجزته خلال أسبوع بما انجزته في الأسبوع السابق. تقارن وتبلغنا أن خطها في كتابة الحروف تحسن ولكنها لم تقارن في أي يوم بين خطها وخطوط أطفال آخرين. القاعدة عندها أن تتفوق على نفسها وليس على الآخرين.


يطلق مفكرون على هذه السمة في الشخصية تعبير التواضع، وهو في رأي بعضهم سمة مذمومة. التواضع في نظر بعض الفلاسفة جهل، والجهل سيئ، والأشياء السيئة لا يجوز التعامل معها كفضائل. التواضع في نظرهم ليس فضيلة. آخرون يتهمون المتواضعين بأنهم في حقيقة أمرهم يضعون أنفسهم في مكانة أعلى من تلك التي يضعون فيها أقرانهم، وحين يشبون عن الطوق يتكبرون على أقرب الأهل وفي حالات أعرفها يرفضون الانتساب لهم.

المتواضعون يعتبرون التواضع فضيلة لا يمتلكها إلا القليلون. هناك من يعجبه الاختلاط بالمتواضعين. المتواضع لا يبث في زملائه الملل الذي يبثه المتفاخرون ليل نهار بإنجازاتهم وما حصلوا عليه من جوائز أو ما ترشحوا لها. التواضع مفيد لأنشطة المجتمع الأهلي. الناشط المتواضع محبوب في الأوساط الاجتماعية “المتواضعة” على عكس ناشط كثير التحدث عن فتوحاته ومكانته وعلو وظيفته واتساع شبكة معارفه في الطبقات الأعلى من الحكم وفي المجتمع. كتبت فيلسوفة أمريكية تقول أن بعض الناس تنبهر بشخص طيب وذكى ولا يقدر نفسه حق قدره، هى ربما على خلاف كثر من مفكري عصرها، عصر انتعاش النيولبرالية، ترى التواضع، باعتباره درجة من الجهل بإمكانات الشخص، فضيلة في حد ذاته. كم من فتاة جميلة لم تقدر جمالها بما يستحق من تفاخر وإعلان وتباهي فوقع عليها الاتهام لكونها تتدلل. كم من شاعر خلف ثروة من الشعر لم يسمعها أهل عصره. كم من مبدع أثمر إبداعه عديد الاختراعات ولن يسجل التاريخ له أيا منها. أبدع وأنجز ومات واثقا من أنه في حياته لن يرى اسمه في قوائم العباقرة.


لا أظلم علوم وقيم الإدارة الحديثة ولكن حسبما فهمت من شرح زملاء مطلعين على البرامج الحديثة في تعليم فنون الإدارة في عصر ما بعد العولمة فإنهم، وأقصد المتخصصين الجدد، يرفضون أن يكون بين صفات المدير الناجح صفة التواضع. حتى الفيلسوف دافيد هيوم أتهم التواضع بأنه الصفة التي تلصق بالشخص سمعة الخنوع ومعاني البساطة والسخف والضعف. هذه السمعة والمعاني الملحقة بها تكونت عبر سنوات من تلقين الطفل، وهو ما يزال طفلا ثم عندما يصير مراهقا، نصائح من نوع، كن هادئا، لا تتكلم عن نفسك كثيرا، غض بصرك وانظر دائما إلى قدميك وارسم على وجهك ابتسامة خالية من أى معنى، لا تطمح إلى بعيد. قيل لي أن الإدارة الحديثة ترفض الأخذ بهذه التجارب في تربية النشء وتدريب المديرين. أستطيع فهم ما وراء هذا الرفض ولكني وبعد أكثر من ثلاثة أو أربعة عقود من متابعة الجدل حول الموضوع أعترف أنني غير مرتاح إلى التجربة الجديدة، التجربة التي تسعى لخلق مدير شرس مختال بنفسه كالطاوس يتقاضي مكافآت في حجم الثروات ويعمل من مكتب فاخر.

نعيش جميعا أسوأ عصور الرأسمالية. لا أقصد أسوأها من ناحية إنجازاتها المادية فالنمو الاقتصادي الكلي مستمر ولكن بثمن باهظ من فجوة شاسعة بين الطبقة الأغنى والطبقات الأخرى في مختلف المجتمعات.
النيولبرالية هي عنوان المرحلة وهي أيضا عنوان العصر الرأسمالي الأسوأ أخلاقيا وسياسيا ومعنويا وبيئيا وإنسانيا وحقوقيا بين كل عصور الرأسمالية. ومن علامات المرحلة الحط من قيمة التواضع والنفخ في قيمة الزهو وعظمة التفوق على الآخرين والسابقين، ولا مانع من استباحة استخدام مفردات لغة مرفوضة أخلاقيا وأموال منهوبة وانتهاك حقوق الصغار من الموظفين وفئة العمال. يبدو أن اعتقادا يسود بأنه للمحافظة على هذه المرحلة من الرأسمالية يتعين أن تكون الفجوة بين الطبقات واسعة وأن يبدع المدير في نشر انجازات حققها أو لم يحققها وفي المقارنة الدائمة بين عهده وعهود سابقيه.


“صديقي، أراك ملت ناحية أنصار التواضع. تذكر أننا التقينا ولم تنتبه كثيرا لوجودي. كنت متواضعة حسب فهمك لتواضع امرأة حديثة العهد بدنيا الأعمال والأفكار.. أنا الآن ضمن دوائرك، أدور فيها مع الدائرات والدائرين. أضع نفسي في صدارة الفائزين بثمار عضويتي في هذه الدوائر. تهتمون بآرائي وتشيدون بأعمالي وتفخرون بوجودي معكم وبينكم. سمعت عنك، يا صديقي، أنك تصفني في غيابي بأروع الصفات. تتحدث عن أناقتي ولباقتي ومكانتي. أنت الآن منتبه لكافة فضائلي التي لم تنتبه لها عندما التقينا أول مرة وأنا متواضعة، أنا الآن لست متواضعة ولا أصادق المتواضعات أو أرافق المتواضعين. أنا الأكفأ والأحسن والأجمل، أليس كذلك؟” انتهى هذا الاقتباس أيضا.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version