طلال سلمان

غوايات

اخترت لكل شخص قابلته في الحفل سؤالا مختلفا. سألت صديقة أعرف حرصها على استكمال برنامج الحمية الذي أنفقت عليه مالا وفيرا وبذلت في سبيله تضحيات غير قليلة، سألتها إن كان الألم شديدا عندما ضعفت فاستجابت لرغبة عارمة في قضمة صغيرة من حلوى زينت مائدة الاحتفال؟ تركتها لأسأل ضيفة الشرف إن لم تكن الدمعة المترقرقة في عينها أفشت حاجتها وهي تسمع الكلمات الدافئة التي نطق بها في تأثر وبعاطفة ملحوظة رئيسها وهو يودعها؟ ألم تشعر بغصة في حلقها وألم في صدرها حين احتضنها بعد أن سلمها الهدية التذكارية؟ تركتها مرتبكة وذهبت الى رئيسها. هنأته على فصاحته في التعبير عن مشاعر الجميع حيال رحيل زميلتهم. ربت على كتفه وسألته هامسا وأنا العارف بما بينهما إن لم يشعر وهو يحتضنها توديعا بما يحرضه على الاحتفاظ بها بين ذراعيه والطلب اليها أمام كل الناس ألا ترحل؟

***

أنت، يا صديقي العزيز.. سمعتك تستعطف نادل المطعم ليسمح لك بتدخين سيجارة. كنت مستعدا لكسر القانون وكسرته فعلا، نسيت في اشتياقك للسيجارة أنك رجل قانون. ألم تخطر لك بعد فكرة أن تجلس مع سيجارتك وتطلب منها الافراج عنك والسماح بعودتك الى منصتك منتصب القامة سليما وقويا وعادلا قبل فوات الأوان؟. هل قررت ماذا انت فاعل لو استهانت السيجارة بطلبك كما استهانت بطلبات سابقة وعادت لتغويك من علبتها، تخرج منها في وداعة لتداعب أصابعك قبل أن تتسلل الى شفتيك وانت ما زلت ترجوها وتتوسل؟ يا الله ما أشقاك! ويا لعمري ما أقواها!

وأنت يا صغيرتي. رأيتك تدورين حول المسئول الكبير تستدرجينه بالحوار ثم بالحصار نحو ركن قصي في صالة الحفل. هناك وعلى مقربة من الركن كنت أجلس على أريكة أستمع الى صديق يحدثني. سكت فجأة وأشار لى بأن أنصت جيدا الى حديثكما أنت والمسؤول في الركن الذي حوصر فيه. أنا الذي لا أتعمد التنصت بل وأحرمه على غيري في بيتي ومكتبي تجاوبت مع صديقي، تفاعلت معه انسانيا أو مجاملة وربما فضولا مثله، فأنصتنا سويا. سمعناك يا صغيرتي تكيلين المديح للمسؤول على كفاءته وحسن سمعته قبل أن تنتقلي الى الثناء على ذوقه وأناقته، وبعد قليل كنت تتحدثين عن صنف الرجال الذين يروقون لك، هم دائما وأبدا من ذوي شعر تسلل اليه الشيب، وفي النهاية وصلت الى مرادك، سمعناك تطلبين منه التوصية عند الوزير لترقية ونقل ومنافع أخرى..

***

انضم الينا زميل يكتب في صحيفة كبرى. سألته عن صحة نميمة متداولة. أجاب بأنه استعار فعلا فقرة من كتاب أو لعلها من مقال زميل ونسي أن يشير الى هذه الاستعارة عند نشرها. قلت، ولكن النميمة تزعم أنك كدت تدمن ارتكاب هذا الخطأ الذي هو في حكم “الجريمة” المهنية؟ كذب حين قال أنه مثل آلاف غيره من الكتاب يقتبسون ويحتفظون بما اقتبسوه لحين حاجة فينشرونه ناسين مصدره. مدمن السيجارة فاقد لبعض ارادته ولا يكذب على الناس أو على نفسه، ولكن المقتبس بدون استئذان إنما يفعل ذلك بارادة كاملة. ثم لماذا تستفردون بالصحفيين، أتعرفون عدد الرسائل التي حصلت على شهادة الدكتوراه في الجامعات المصرية ولم يكتبها أصحابها وتغافل عنها أو لم يقرأها الأساتذة الممتحنون؟

***

سمعت أو قرأت أن فيلسوفا، وأظن أنه “كانت”، قال أو كتب أن قيمة الأخلاق هي في الجهد الذي بذل فيها. كعادتي تحريت الأمر. عدت إلى واحدة من أحب هواياتي إلى نفسي وهي مراقبة الأطفال. رأيت الطفل يمد يده الى علب الحلوى وعينه على أمه. الأم تنهي الطفل عن المبالغة في أكل الحلوى والطفل ضعيف امام إغراء الحلوى الملقاة على المائدة حرة وميسرة. ربما لو لم توجد الحلوى على المائدة أمام الطفل ما تذكرها وسال لعابه وضعفت ارادته الى حد استسلامه لتحريض صريح للتمرد. تردد الطفل ثم التفاته نحو أمه للتأكد من أنها غير منتبهة هو في الحقيقة جهد مقاومة يحمد عليه. أتصور أنه فكر على النحو التالي: “اريد قطعة الحلوى ولكنى تعهدت لأمي بأن أستأذن واذا استأذنت، كما يحدث كثيرا، فلن أحصل عليها. الرغبة شديدة وتزداد. لن أنتظر فقد تنتبه أمي. سأمد يدي وفي كل الأحوال الحصول عليها يستحق الجهد الذي بذل فيه”. إنها قصة الغواية كما في الطبيعة. لعلها، وأقصد الغواية عند الأطفال، لا تختلف في جوهرها عن “الغواية المقدسة” أو “الغواية الأصلية “، غواية الشجرة والحية والتفاحة وحواء وآدم والسقوط من الجنة. لعلها أيضا تختلف في الجوهر كما في الشكل ودرجة البراءة عن الغواية عند الكبار المتضمنة مثلا في حكاية يوسف وامرأة العزيز.

كم من زوجة حاولت تنبيه زوجها إلى أن إهماله لها أو تفضيله آخرين وأخريات عليها كفيل وحده بأن يضعف مقاومتها للغواية. قيل أن الزوجة تفضل أن يعتقد الزوج أنها معرضة للغواية ولكنها تقاوم، تفضل هذا عن أن يعتقد الزوج أنها محصنة دائما وأبدا ضد كافة عناصر الغواية ومصادرها ولا خوف عليها من استمرار تجاهله لها وتعاليه على نصيحة إطراء محاسنها وحسناتها. يبخل الزوج عليها بكلمات حب ومشاعر رقيقة بينما يسرف في إغداقها على الغريبات، ومع ذلك تقاوم. ولكنها تعرف، ونحن أيضا نعرف، أن المقاومة للغواية تضعف مع الزمن أومع تراخي استعمالها. يقال إنها كالعضلات في جسم الانسان تحتاج دوما الى تقويتها بالاستخدام المنتظم وبشحذ وتدريب الإرادة اللازمة لهذا الاستخدام..

***

يقال إن لا غواية شديدة في شئ متاح او متوفر، وأن المقاومة للغواية تقل في المرة الثانية واقل جدا في المرة الثالثة. أجرى الباحث نيل جاريت من جامعة لندن بحثا أكد مقولة إن الشعور بالضيق الذي يعقب احيانا الاستسلام للغواية يقل بالتدريج مع كل استسلام لنفس الغواية حتى ينتفي تماما. الكبابجي على سبيل المثال لا يشتهي كبابه، فالتعود على رائحة طعام بعينه يفقد صاحبه شهيته له، أي يفقده وازع المقاومة. قرأت أيضا أنه لوحظ على سلوك شعوب تعرضت لنكسات عنيفة انهيار جماعي في مقاومتها شتى الغوايات، ثبت أن هذه القرى والمدن انتكبت بعد النكسات بدعاة دين وسياسيين ذاع وثبت صيت فسادهم.

***

أجزع من تفاقم ظاهرة الغش في الامتحانات المصرية لعلمي أنه لا يقف في وجه إغراء الغش الا شباب بارادة قوية وقيم رفيعة. بمعنى آخر لا يغش إلا الطالب الفاقد لقيم المقاومة. حاولت احدى الجامعات الأجنبية ان تحصل على فهم أفضل لأسباب الغش فحقنت بعض الطلاب بمحلول يخفض الانفعال لتكتشف أن الطلاب المحقونين كانوا الأكثر إقبالا على الغش من الطلبة الذين بقيت سليمة قدرتهم على التمييز بين الخير والشر.

***

الغوايات تخلق حاجة ملحة أو رغبة عارمة الوفاء بها دائما او كثيرا يضر بقدرة الانسان في مستقبل أيامه على الانتظار والتحكم والمقاومة.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version