طلال سلمان

غالبون كثر مغلوب واحد

ما جرى في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، مقارَناً مع ما جرى في الشارع خلال الأيام الثلاثة الماضية، يقدم »مشهداً« نموذجياً لسياسة استثمار الخطأ السياسي لتحقيق مكاسب سياسية، بغض النظر عن كلفة الخطأ ومن ثم كلفة المكاسب، ومَن يدفع »الحساب« عن الجميع!
نظرياً: يُفترض أن »كل« المتلاقين في مجلس الوزراء مناهضون للذين كانوا في الشارع، بل هم يحكمون بقوة »انتصارهم« عليهم، وهو انتصار حققه ميدانياً الجيش الذي كان في الجلسة موضع محاكمة.
عملياً: دخل المشاركون في الجلسة إلى القاعة من بابين مختلفين، واستخدموا منطقين متعارضين إلى حد المواجهة والعجز عن الاتفاق على قرار واحد، ومن ثم لجأوا إلى الحيلة التقليدية: إلغاء البيان والاكتفاء ببضعة سطور تجمّل المواقف العامة التي كان يمكن أن يوافق عليها أولئك الفتية الأغرار الذين جرى »لمّهم« من الشارع بذريعة الانسياق لغواية المتآمرين على وحدة لبنان وسلامة الجيش.
نظرياً: يُفترض أن »كل« المتلاقين في مجلس الوزراء ينضوون في »جبهة سياسية« موحدة، وهم بالتالي ملتزمون بثوابت محددة على قاعدة التحالف مع سوريا والتنسيق الدائم والمتين معها، لا سيما في ما يتصل بالصراع العربي الإسرائيلي.
عملياً: دلت المناقشات كما عبّرت عنها »المحاضر السرية« التي تولت نشرها وتعميمها جهات »رسمية« لا يمكن إخفاء هويتها، على أن الانقسام على قمة السلطة لا يقتصر على مسألة الحريات، بل هو يمتد إلى الأساسيات أو الثوابت في السياسة الخارجية (الموقف من التمديد الأخير لقوات الطوارئ وما أصابه من تعديل لمهمتها، مستقبلاً، يحوّل جنودها إلى مجرد مراقبين… والتحذير من أية خطوة خاطئة كالمطالبة بسحب هذه القوات »مما يعرضنا لما أصاب عبد الناصر بعد طلبه سحب القوات الأممية من مضائق تيرانا«)…
وهذا الانقسام يمتد من مزارع شبعا واستمرار المقاومة لتحريرها، إلى طبيعة العلاقات مع الولايات المتحدة و»الصداقة« مع فرنسا، انتهاء بالموقف من نشر الجيش في المناطق المحررة، والذي اتخذ ذات يوم شكل المطالبة بضرورة تعزيز القوة الموجودة بثلاثة ألوية، أي بمعظم القوة المقاتلة فيه.
نظرياً: يُفترض أن الحكم وحدة في القرار، تشمل في ما تشمل وحدة المنظور إلى طبيعة النظام ومرتكزاته الدستورية ومؤسساته.
عملياً: تبيّن أن في مجلس الوزراء معسكرين متواجهين، تفصل بينهما قوة »محايدة«، ممن يتمثلون بالحكمة القائلة »عند اختلاف الدول إحفظ رأسك«.
وفي حين تولى معسكر رئيس الجمهورية الهجوم مستعيناً بوقائع من الماضي لتبرير التدابير الأمنية الزجرية في الحاضر، فإن الهجوم المضاد الذي تولاه معسكر رئيس الحكومة بتنسيق ملحوظ بين أطرافه المتناغمين، قد نجح في خطف راية الدفاع عن الحريات العامة، وعن دمغ »خصومه« بتهم شديدة أبسطها الرغبة في قمع الإعلام، مستشهدا بتجربة سابقة في هذا المجال (تعطيل »السفير« في العام 1993) كانت ثقيلة الكلفة.
الطريف أن استعادة هذه الذكرى تعيد إلى الأذهان، في ما تعيد، أن الأدوار كانت مختلفة إلى حد التناقض، وأن الأيام قد علّمت البعض فاتعظ تاركا خطأه لمن يرغب في دفع ثمنه الباهظ!
* * *
والخلاصة: إن حالة الانقسام التي رافقت مجلس الوزراء منذ ولادة هذه الحكومة، قد تكرست، بل وبات لها »منطقها« السياسي وتبريراتها الأيديولوجية!. لم تعد حكاية اختلاف في المزاج، ولا هي خلاف موروث من تجربة سابقة باتت من الماضي، ولا حتى مجرد افتراق في المفاهيم حول موجبات التحالف والمخاصمة مع القوى المختلفة، في الداخل والخارج.
وحدة الحكم متعذرة، والاستقالة ممنوعة، والأزمة إلى تفاقم، لا سيما الوجه الأخطر منها، أي الوجه الاقتصادي؛ فالدين إلى تصاعد وخدمته التي تلتهم الناتج الوطني تتزايد مع مشرق الشمس كل يوم.
ألا يُنتج هذا الواقع السياسي الاقتصادي الاجتماعي المزيد من الأبطال المزوَّرين أو الوهميين، والمزيد من الانتصارات الدونكيشوتية، بينما المواطن وحده هو المغلوب… ومحكوم بأن يبقى مغلوبا ليعيش الحاكمون والمعارضون من الخارج والداخل زهو الانتصار؟!

Exit mobile version