لم يخطئ من تنبأ بأن الرئيس الأمريكي سوف يدير بنفسه معركة انتخابات النصف ويبذل فيها أقصى الجهد لاعتقاده أن نتائجها سوف تمهد للانتخابات الرئاسية القادمة. يعرف ترامب ومعه عديد السياسيين الأمريكيين أن هذه الانتخابات بالتحديد سوف تفرز مرشحين محتملين من الحزب الديموقراطي لمنصب الرئاسة، أكثرهم يحمل أفكارا جديدة ويعبر عن مرحلة مختلفة. المرحلة فعلا مختلفة. لم يحدث خلال القرن الأخير إلا مرة واحدة إن وجدت أمريكا نفسها تقف مترددة بين أن تتقدم وتقود أو تبتعد عن مشكلات أوروبا والعالم فتنعزل. في تلك المرة الوحيدة التي ترددت فيها كانت إمكاناتها تسمح لها بأن تتقدم لتقود، إما هذه المرة فالإمكانات النسبية ليست كافية ولا مشجعة بل صار النقص فيها دافعا للانقسامات والاستقطاب الداخلي.
ترامب يعرف ويعرفون أن أجواء انتخابات النصف يمكن أن تحمل هدية بل هدايا للحزب الجمهوري. يستحق الحزب جانبا من الفضل في كثير من إيجابياتها ولكن يجب أن يعترف أن معظم الفضل يعود إلى الرئيس دونالد ترامب، وكثير منه يعود لغباء زعماء الديموقراطيين وسوء تصرفهم وتفرقهم وابتعادهم عن الجماهير. أستطيع في السطور التالية رسم تصور مبسط جدا للأجواء التي جرت وتجري في ظلها حملات الانتخابات النصفية لمجلسي النواب والشيوخ، وهي بالفعل صورة لحالة فريدة، صورة لم تكتمل على هذا الشكل من قبل، أو فلنقل بعبارات أخرى إننا، كمراقبين من الخارج، نجد أنفسنا مع جماهير الناخبين أمام وضع أمريكي مثير للاهتمام، والاحتمال كبير أن يصبح هذا الوضع سببا مباشرا في تحولات هامة في أوضاع أمريكا الدستورية والسياسية، ومكانتها الدولية.
***
أولا: تشهد أمريكا، كما يشهد العالم خارج أمريكا، سباقا بين قوى عديدة استعدت لتهيمن على مقدرات العالم خلال ما تبقى من القرن الحادي والعشرين. تتقدم في السباق قوى اليمين ممثلة لجميع أطيافه ومذاهبه وتجاربه. تتقدم أيضا، ولكن من بعد بعيد، قوى اليسار. تتقدم في صفوف مضطربة مزودة بأفكار احتجاج وإصلاح وعاجزة فيما يبدو عن فهم طبائع العصر الرقمي وأساليب التعامل السياسي في غياب متعمد لمنظومات قيم وأخلاق تنظم احترام الحقوق الإنسانية. أكاد أجزم بأنها، وأقصد قوى اليسار في الشرق الأوسط حيث تقع بلادنا العربية، فقدت القدرة على توليد أفكار وسياسات جاذبة للطبقات المطحونة بقسوة أشد من أي وقت سابق. هكذا الحال نفسه في أمريكا الجنوبية وشبه القارة الهندية والاتحاد الروسي.
في أمريكا على سبيل المثال استطاع اليمين الذي يقوده الرئيس ترامب أن يحشد الصفوف ليعيد للرجل الأبيض مكانته في مجتمع مهاجرين، ولا تثريب في رأيي على تيار سياسي صار يعلن على الملأ أن في أمريكا الآن حزبا قوميا وزعيمه الأول الرئيس “القومي” دونالد ترامب. القوميون، أي سلالة المهاجرين من أوروبا، لهم الآن حزب يدافع عن حقهم في العودة بأمريكا إلى صيغة هيمنة الجنس الأبيض على ما عداه. هم الآن يدعون إلى عودة البيض ليستلموا مزارعهم وممتلكاتهم في إفريقيا، ولا نرى في عيون الأفارقة السمراء غضبا كان مألوفا ولا نسمع من حناجرهم رفضا كان ذات يوم ثوري الطابع والفكر والفعل.
***
ثانيا: تشاء الظروف والأجواء السخية في كرمها وعطاياها مع الرئيس ترامب أن تخرج من قلب أمريكا الوسطى قافلة مهاجرين في ثياب لاجئين بدأت بآلاف قليلة وانتهت بآلاف كثيرة. من الصدف المثيرة أن تتحرك القافلة في الأسبوعين السابقين على موعد انتخابات النصف. صحيح أن نصيبا لا بأس به من شعبية الرئيس ترامب بين الجمهوريين يعود إلى موقفه المعادي لمبادئ الهجرة المفتوحة. لقد نشأت بعض أحزاب أوروبا القومية أو تعززت بفضل موجات الهجرة الأسيوية والأفريقية التي اكتسحت شواطئ أوروبا الجنوبية من تركيا واليونان شرقا إلى إسبانيا غربا. كما أن لا أحد ينكر أن الأزمة السياسية الممتدة والمتمددة في ألمانيا سببها المليون مهاجر الذين سمحت إنجيلا ميركيل بدخولهم إلى ألمانيا. والمؤكد أن ترامب لم يدع فرصة تمر دون أن يكشف عن شماتته في ميركيل والأوروبيين الذين استهانوا أو سخروا من موقفه اللاأخلاقي تجاه مسألة الهجرة. لن ننسى ونحن نحسب أرصدة ترامب للانتخابات الرئاسية القادمة أن قاعدة ترامب الانتخابية تدعم بكل قوتها سياساته تجاه الهجرة، ولا شك أن منظر الجنود الأمريكيين وهم يتوجهون نحو حدود تكساس ولويزيانا مع المكسيك يثير بقوة الشعور القومي المتصاعد في أمريكا منذ شهور الحملة الانتخابية الرئاسية في 2016. يكفي هنا القول إن حكومة ترامب ردت أكثر من أربعمائة ألف طالب هجرة وصلوا حتى الحدود خلال العام الماضي وحده.
***
ثالثا: الاقتصاد الأمريكي نما في عهد ترامب. ليس هنا مجال الخوض في تفاصيل هذه العبارة التي يرددها إعلام البيت الأبيض والحكومة الأمريكية ويعترف بصحتها، وإن على مضض، الإعلام الكاره للرئيس ترامب والحزب الجمهوري وهيمنة رجال المال والمصارف على الحياة الاقتصادية. ما يهمنا الآن هو ضرورة الاعتراف من جانبنا بأن ترامب القادم من خارج المؤسسة الحاكمة استطاع أن يهبط بالبطالة إلى نسبة متدنية للغاية، الأمر الذي أضاف إلى مكانة ترامب في صفوف عمال الصناعة وبخاصة الحديد والصلب التي عادت تشتغل، ولو رمزيا، بعد أن أوقف ترامب العمل باتفاقية النافتا مع المكسيك وكندا ورفع نسبة التعريفة الجمركية على واردات الصلب من دول أوروبا الحليفة ومن الصين. مرة أخرى قاعدة ترامب تتعزز وتتأكد هذه القوة المضافة في الحملة الانتخابية لصالح المرشحين الجمهوريين للمقاعد الشاغرة في مجلسي النواب والشيوخ.
***
رابعا: واضح تماما أن ترامب عرف كيف يداعب وترا حساسا، بل لعله أهم الأوتار في النظام السياسي الأمريكي. جاء ترامب مرشحا ثم رئيسا محمولا على موجة عدم ثقة في الطبقة السياسية الأمريكية. لا ثقة جماهيرية في قيادات الحزبين ولا رضاء عن حال البلاد ومكانتها الدولية. من ناحية ثانية جاء مقتنعا بأن لا نهضة لأمريكا بدون دعم لا متناهي لمؤسستين، مؤسسة المال والأعمال ومؤسسة الأمن القومي والدفاع. وبالفعل اقترح ونفذ أهم إجراء ضريبي يحدث على مدى عشرات السنين وفي الوقت نفسه قلب موازنة الدفاع رأسا على عقب، وها هو الآن وبكل الجسارة، أو التهور الممكن، يعلن نيته إلغاء سلسلة من معاهدات خفض تسلح وقعتها أمريكا مع روسيا حين كان الهدف تشجيع خروجها من مواقع القيادة والحرب الباردة وتوجيهها نحو زوايا النسيان والفوضى. لا شك أن مؤسسة الحرب، وأقصد مصانع السلاح ومراكز البحوث الاستراتيجية وقادة الفروع السبعة في القوات المسلحة وأجهزة الاستخبارات ولجان الدفاع والأمن والعلاقات الخارجية بالهيئة التشريعية، سعيدة بما حققه لها ترامب وما وعد بتحققه مثل الوعد باستعادة أمريكا قوة أعظم. الأمر نفسه ينطبق على مؤسسة رجال المال والأعمال التي من فرط سعادتها بإخلاص ترامب لها بدأت تتعامل معه كـأحد أبنائها بعد عقود من الإقصاء والتعالي على أساليبه في إدارة مشاريعه الخاصة وسوقيته وعلاقاته الخارجية.
***
خامسا: في ناحية بعينها يذكرني دونالد ترامب بالسنيور سيلفيو برسلكوني رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ إيطاليا الحديث. كان برلسكوني وما زال يفخر بأنه رغم، وربما بفضل، ثرائه الهائل أقدر من تعامل من السياسيين الإيطاليين مع الناخبين. قدم نفسه إليهم نموذجا للسياسي الذي يتقمص شخصية وأخلاقيات وطموحات المواطن العادي. المواطن العادي يحب أن يتفادى دفع الضرائب الواجبة، ولا يحرم نفسه من ممارسة الكذب على أهله وأصدقائه وعلى الدولة من حين لآخر. المواطن الإيطالي يعشق حياة الليل والحب والمغامرات العاطفية، برلسكوني هو هذا المواطن الصريح البسيط يتشبهان ببعضهما ولا يخجلان الواحد من الآخر أو يتخفيان.
لا أحد ينكر أن موقف الرئيس ترامب وحكومته وإعلامه من جلسات الاستماع حول مسألة القاضي كافاناه يحسب له الآن كمصدر جديد من مصادر قوته وشعبيته لدى قاعدته الانتخابية، التي توسعت حتى صارت القاعدة التي يحلم بها بل يعتمد عليها الحزب الجمهوري في انتخابات النصف التي تجري الأربعاء القادم. لا ننسى أن العدالة ممثلة في مكتب التحقيقات الفيدرالي وسلك القضاء كانت هدفا لترامب فور توليه منصب الرئاسة تصدت له وتصدى لها وكانت آخر معاركهما ترشيح ترامب للقاضي كافاناه للمحكمة الدستورية العليا. وعندما توحدت القوى الرافضة لتعيين كافاناه دافع ترامب بنفسه عن القاضي باعتباره متهما هو نفسه بنفس التهم الموجهة للقاضي ومعتمدا على حقيقة أن نسبة عالية من الرجال وقع اتهامهم في مرحلة أو أخرى بالتهم ذاتها. هي نظرية برلسكوني في الحكم يطبقها الرئيس ترامب على أكفأ وجه.
***
سادسا: الصين على الطريق الصاعدة نحو القمة. أخيرا جدا حصلت الصين على اعتراف إدارة الرئيس ترامب بهذه الحقيقة. حاولت أمريكا تأجيل اعترافها بتشجيع من أوروبا التي لم تشأ أن ترى أمريكا منشغلة بآسيا على حسابها. لم يعد التجاهل أو الإنكار ممكنا بل وصار السباق في نظر أمريكا ضرورة لوقف تردي القوة الأمريكية وضرورة لتعظيم الأعباء الاقتصادية والتكنولوجية والدفاعية على دولة عظمى صاعدة ولكن نامية. قد يثبت هذا السباق أيضا كضرورة للتعبئة الداخلية وراء شعارات قومية صار ترامب يجيد صياغتها والترويج لها، وجربها بالفعل في الأسابيع الأخيرة خلال حملته العنيفة ضد مبادئ وممارسات التجارة الحرة مع الصين.
***
نشهد هذه الأيام نظام الرئيس ترامب على محك الاختبار الحقيقي. هذه الحملة الانتخابية لمعركة النصف هي فرصتنا للتعرف على مصادر قوته وضعفه وقدرته على الاستفادة القصوى من واحدة وتفادي الأخرى. يبقى لنا أن ننتظر حتى الخميس القادم لنمتحن صلاحية ما طرحه هذا المقال من أفكار ومن نوايا ترامب ومصادر شعبيته من أجل الفوز بولاية ثانية. أؤيد كل من قال أن هذه الانتخابات هي في جوهرها استفتاء على دونالد ترامب رئيسا حتى عام 2024.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق