عادة ما تكون الأيام الأخيرة من العام غنية بالتطورات والتحليلات ولم تكن الأيام الأخيرة من العام الحالي أقل ثراء وكرما من سابقاتها وكنت بنفسي شاهدا وفي أحيان غير قليلة مشاركا. قضيت عشرات الساعات خلال الأيام العشرة الماضية أتابع بشغف ما يذاع ويبث وينشر عن تطورات أحداث تعددت مسارحها. قضيت ساعات أخرى أستمع كثيرا وأعلق إن سنحت الفرص إلى محللين أغلبهم من الشباب، تحدثوا بطلاقة عن حاضر سقوفه وأعمدته تهدم في حضورهم وعن مستقبل لبناته ترص أمامهم. كلهم، ونحن كبار السن معهم، في أمس الحاجة لمن يستطيع وضع هذه التطورات جميعا في نسق يمكننا فهمه والبناء فوقه وفي داخله.
***
جرى نقاش طويل ومثير عن العولمة. تذكرت لحظات مماثلة وممتعة قضيتها مع الصديق الراحل السيد ياسين ننحت في صخرة العولمة على أمل أن نصنع منها مجسما نفهمه ونكتب عنه مطمئنين وواثقين. وقتها كانت العولمة في نظر الكثيرين صاعدة ومنتصرة وفرص لا تعوض بينما هي الآن منحدرة ومنكسرة ومحل اتهام هنا وعتاب هناك. ناقشنا، والشباب معنا، الظاهرة الترامبوية في علاقتها بالعولمة. دونالد ترامب وصل إلى البيت الأبيض يحمل لواء الكفاح ضد العولمة. أعترف للرجل بصموده أمام قوى عالمية وأمريكية تصدت له بكل ما أوتيت من أساليب إقناع وغواية وصدامات سلمية. خاض حربا ضروس ضد جميع أشكال العمل الدولي المشترك. تعامل باستهانة وكثيرا بقصد الإهانة مع جميع مؤتمرات القمة التي شارك فيها منذ توليه منصب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. حمل على عاتقه مهمة وقف العمل بمبادئ حرية التجارة بين الدول. وأظن أنه نجح. ففي قمة الأرجنتين يبدو أنه فرض على رؤساء 19 دولة أن ينص في بيان القمة، وربما بيانات القمم القادمة، على مبدأ “عدالة” التجارة بين الدول محل مبدأ “حرية” التجارة بينها.
في ظني كذلك أن ترامب نجح أيضا، وإن رمزيا، في إضعاف ما يستحق أن يسمى بثالوث العولمة المقدس، وأقصد به السيدة آنجيلا ميركل والمسيو إيمانويل ماكرون والاتحاد الأوروبي. دخل حربا ضد الثلاثة ونتيجتها حتى الآن ألمانيا أضعف سياسيا في أوروبا بسبب الهزائم المتكررة التي لحقت بالمستشارة ميركل، وفرنسا أضعف دوليا وبخاصة في أوروبا بسبب “غرور” الرئيس ماكرون وتعاليه على الحركة النقابية الفرنسية وسوء إدارته للعلاقات بين طبقات فرنسا، والاتحاد الأوروبي أضعف مؤسسيا وسياسيا بعزم المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد. بل أن المملكة المتحدة نفسها تبدو أضعف من أي وقت مضى بعد أن تعرضت السيدة تيريزا ماي لتعنيف مباشر من الرئيس الأمريكي حين خففت من لهجة وأساليب مبادرة الخروج من أوروبا. ترامب لا يحب أن يري أوروبا موحدة أو متعاونة فيما بينها ولا يحب في الوقت نفسه أن يرى دولا قوية في أوروبا تقود العولمة أو تنعش مسيرتها. مرة أخرى تقف الفرص في انتظار أن يتاح لها أن تخدم دونالد ترامب وسياساته وأمزجته. ساعدت ظروف أوروبا وبخاصة ظروف ميركل وماكرون حملته الكلامية العنيفة ضدهما كما ساعدته الجهود التي يبذلها مستشاره للأيديولوجيا ستيف بانون. يسعى بانون الآن لإعلان نشأة “الحركة”، وهو الاسم الذي اختاره لتحالف القوى والتيارات الشعبوية الأوروبية المناهضة للعولمة وبخاصة للاتحاد الأوروبي بصفته أحد أهم نماذج العولمة.
***
فجأة، وبدون مقدمات طويلة، اكتشفوا أن للعولمة سلبيات. اكتشفوا أنها كادت تخنق شريحة كبيرة في طبقة الرجل العامل الأبيض في الولايات المتحدة، وأنها أضرت بصناعات عديدة تخصصت فيها طويلا أمريكا مثل صناعتي الصلب والسيارات، وأنها سمحت للصين بالقفز نحو القمة كمنافس للولايات المتحدة بل وسمحت لها بأن تتجاسر وتعرض نوعا من العولمة بديلا للعولمة على النمط الأمريكي التي سادت وهيمنت منذ السبعينيات. العولمة من وجهة نظر المذهب الترامبوي أقامت أوروبا الموحدة كتكتل غربي ليبرالي يسعى للاستقلال المتدرج عن الهيمنة الأمريكية. اكتشفوا أيضا أن العولمة شجعت على تقوية الانتماء إلى هويات ثانوية تحت الوطنية وهويات أعظم فوق الوطنية فجاءت كلها على حساب سيادة الدولة الوطنية، التي من المفترض أن تكون وحدها الوحدة الفاعلة في النظام الدولي. اكتشفوا، وأظن أننا جميعا شهود، أن العولمة سبب مباشر في تفكيك النسيج الاجتماعي في دول كانت على وشك الانتهاء من عملية نسج مجتمعاتها. سقطت دول وفشلت دول وانفتحت بقوة الاندفاع حدود دول أمام طوفان اللاجئين والمهاجرين. كانت الولايات المتحدة أحد الضحايا وكانت أوروبا أكبرها. أخيرا اكتشف الغرب أن فكرة العالم كسوق كبرى واحدة فكرة سيئة ففي العالم أشياء وكائنات ومبادئ عجز “السوق” عن الانتباه إلى وجودها وبالتالي فشل في حمايتها.
***
توقعنا في نقاشاتنا أن تشهد الشهور القادمة تطورات أو مواقف تستعيد بعض الاتزان إلى سلوكيات المسؤولين عن اقتصاد العالم واستقراره. قبل أيام خرج كلاوس شواب، الأب الروحي والطبيعي لنوع العولمة السائدة، بتصريحات مثيرة للاهتمام. إذ أنه بعد أن وعد بفترة ينعم فيها العالم بأمل وسلام اعترف أننا نعيش مرحلة عدم استقرار شديد. قال إن عالما جديدا ينتظرنا بمجرد أن تتوقف عمليات هدم وتخريب ما هو قائم تمهيدا لإقامة الجديد. أخيرا خرج إلينا من يعزز موقفنا من تدهور حال المؤسسات الدولية والإقليمية الراهنة. نقول أن هذه المؤسسات التي جرى طويلا تعريف النظام الدولي بها لم تعد تعكس توازنات القوة في عالم اليوم. مجلس الأمن مثلا لم يعد النموذج الأمثل على جهاز يحمي الأمن ويدير صراعات العالم وأزماته فضلا عن أنه لا يمثل حال توازن القوة الفعلي. كنا نقول إن منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي مؤسسات تعكس الوضع الدولي الذي انبثق عن الحرب العالمية الثانية، هي الآن بالتأكيد لا تعكس الوضع الدولي االراهن. أخيرا اكتشفت قمة الأرجنتين هذه المفارقة فصدر عنها بالإجماع ما يشير إلى الحكم بنقص في صلاحيات منظمة التجارة العالمية، إحدي أهم رايات النظام الدولي القائم. صدر كذلك عن كلاوس شواب، وهو المرجع الأساس في شؤون النظام الاقتصادي العالمي في مرحلته الراهنة، ما يفيد بأن مؤتمر دافوس القادم سوف يدعو إلى “إعادة هندسة المؤسسات الإدارية والسياسية الدولية من القاع وحتى القمة”. وفي نقاشاتنا حول العولمة ومصيرها وحول الصحافة ومصيرها وحول توازن القوى الدولي ومصيره اعتبر شباب الباحثين هذه الدعوة بمثابة إعلان انتهاء صلاحية المؤسسات الدولية التي أنشأها الأباء الذي أسسوا للنظام الدولي القائم وضرورة تعديلها “والانتقال بالأساليب المستخدمة حاليا لإدارة الأزمات إلى فضاء أوسع وإلى خيال أخصب وإلى إبداع في أنماط التفكير”. الحاجة ماسة بالفعل إلى ضرورة التفكير بخيال خصب وإبداع وفير في مصير مؤسسات إقليمية وليس فقط مؤسسات دولية وأخص بالذكر جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي اللتين لم تعودا تعكسان حال الإقليمين.
المهمة صعبة، إذ أن معظم الدول تركز الآن في سياساتها الخارجية واهتماماتها الدولية بشكل عام على استعادة سيادتها التي ضاعت أجزاء منها خلال الحماسة للعولمة، يحدث هذا وسوف يستمر بينما يتوق الفكر السياسي إلى أن يحظى التعاون بين الدول بما يستحقه من اهتمام القادة منعا لمزيد من الانفراط.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق