طلال سلمان

عن وقتي الضائع

يسألون، أتنسى كما ننسى؟ أجيب بسؤال. كيف أرد وأنا لا أعرف كيف تنسون ولا ماذا تنسون ولا متى تنسون. كل ما أعرف هو أنني صرت كثير النسيان. أنا مثل غيري من كبار السن كثيرا ما أنسى أسماء الناس والأشياء. لا أنسى كل الأسماء. إن نسيت فقد نسيت فقط ومؤقتا الأسماء ذات الصلة بحاضر حياتي ومسؤولياتي. أنسى تفاصيل أماكن ومواعيد لقاءات حتى صرت أطلب، بغير خجل، من الطرف الآخر تذكيري قبل اللقاء بوقت قصير بمكانه وموعده. وفي أثناء اللقاء أتعمد إدارة الحديث ليبقى دائما في سياقات الماضي.

غريب أمري بل وأمر كل من هو في مثل عمري. أتحدث بطلاقة لم أعهدها في كل موضوع تغوص جذوره وتفاصيله في الماضي البعيد، وأحيانا البعيد جدا. كنت، قبل يومين، أحكي عن بيت نشأت فيه وقضيت في رحابه الواسعة شطرا من طفولتي. حكيت كيف كانوا يضعوننا في داخل مشربية تطل على شارع مزدحم. على الناحية الأخرى من الشارع يقوم مسجد بسيط الحال وعلى مقربة من بابه رجل يبيع البليلة من وعاء نحاسي ضخم منصوب فوق عربة خشبية. فجأة، كما في كل مرة حكيت حكايتي مع المشربية وبائع البليلة، انتبهت إلى أن من يسمعني يحاول أن يخفي عدم التصديق. كيف لإنسان في عمري أن يتذكر ما وقع له أو شاهده وهو ما يزال في عمر وعقل الشهور المعدودة. وكيف لعاقل، لم يخرف بعد، أن يحكي مرات عديدة هذه الحكاية من دون أن يعتذر عن تصديقه هو نفسه لها رغم استعداده لقبول فكرة أن يكون قد تسرب إليها عبر الزمن من عالم الخيال وضغوط الحنين ما جعلها تبدو الآن غريبة على السمع وعصية على التصديق.


كبار السن ينسون الكثير مما يقع لهم ولم يمر على وقوعه إلا وقت بسيط. لست خبيرا في علوم النفس لكني سمعت وربما اقتنعت بأن وراء نسيان الكبار السريع سببين رئيسين. ننسى لأن وعاء الذاكرة يكون في هذه السن المتقدمة قد امتلأ وما يستجد يذهب أكثره هباء في فضاء لا حدود له ولا أعماق. لن نذكر موعد تناول أقراص هذا الدواء أو ذاك. أنسى أين وضعت مفاتيح السيارة والمجلة التي كنت أتسلى بقراءتها والموبايل الذي يكره أن يفارقني. أميل إلى الاقتناع بما ذهبوا إليه كسبب للنسيان. نعم فاض الوعاء ولم يعد يتسع لإضافة جديدة.


ذهبوا أيضا إلى أن وسائط الاتصال الإلكترونية وكثافة استخدامها سبب آخر لتفاقم ظاهرة النسيان عند كبار السن. لاحظوا أن كبار السن من الجيل الحالي ينسون أكثر من كبار السن من جيل أسبق. لاحظوا أن أهالينا لم يشكوا من النسيان بقدر ما يشكو أحفادهم. في رأي هؤلاء نحن ننسى أكثر لأننا سمحنا لأنفسنا خلال عقد السبعينيات أن نستخدم البريد الإلكتروني واسطة اتصال ففقدنا متدرجين ملكة التركيز. كنا، قبل أن تقتحم هذه الوسائط حياتنا، نفكر. كنا نفكر كثيرا وندقق ونحن نكتب بالقلم وعلى الورق. كنا أيضا نفكر ونحن نبعث برسالة شفهية عن طريق الهاتف، نركز على ما نقول ونركز على ما نكتب.

كنا قبل وقوعنا في أسر البريد الإلكتروني وحلفائه نخصص وقتا لقراءة الرسائل وأغلبها ورقي. لا نجيب إلا بعد تفكير ومنعزلون عن أسباب التشتيت. كنا أوفر قدرة على التركيز فيما نقرأ أو نفعل. أظن أن أحد أهم أسباب تردي مستوى التعليم الجامعي هو إقبال الطلاب والأساتذة على الانشغال بوسائط اتصال أغلبها يكره أن يرى الطالب أو الأستاذ متفرغا ليفكر. أشعر كما لو أنها صنعت خصيصا لمطاردة لحظات الفراغ. هذه اللحظات هي في بعض المهن ضرورية لتجديد الفكر وتصنيف المعلومات والمدخلات في عقل الإنسان. هي أيضا ضرورية للتدريب على استعادة المخزون. طاردوا لحظات الفراغ حتى كاد يكون صعبا مستحيلا التمييز بين الحالتين أو الفصل بينهما، حالة العمل وحالة الفراغ.


أعرف كثيرين من أبناء جيلي فقدوا بعض قدرتهم على التركيز. منهم من يشكو ومنهم من لم يلاحظ سوى أنه صار كثير النسيان. أعرف مبدعين توقف إبداعهم. أسمع أساتذة جامعيين يعتذرون عن نقص إنتاجهم العلمي والأكاديمي بحجة أن وقتهم ضائع في مهام غير أكاديمية، أسمع آخرين يعترفون بأنه خلال الانتقال إلى العالم الرقمي انكمش حيز المنافسة في الوسط الأكاديمي. حلت الحاجة إلى التدريب على سرعة الإجابة محل الحاجة إلى التدريب على التركيز. أقرأ في الدوريات الأمريكية عن ضحالة في الفكر تحل تدريجيا محل الإبداع. يتحدثون عن ضحالة في الأدب وفي العلوم الإنسانية كما في علم الاقتصاد وأن الإبداع كاد يقتصر على صناعات البرمجة وعلومها وبخاصة برمجة الذكاء وإنتاج البديل لإنسان صار يخرب في الأرض أكثر مما يعمر، إنسان مشتت العقل وفاقد الهدف من وجوده في مجتمع فقد فعلا بوصلة الإرشاد والتوجيه.


امتحنت صديقا في مثل عمري فقال “أستطيع وبسهولة بالغة أن أكتب هذا الصباح في دفتر يومياتي تفاصيل يوم، أي يوم في صيف، أي صيف خلال عقد انتصاف القرن الماضي، قضيته مع العائلة أو الشلة في سيدي بشر أو فوق هضبة الأهرامات. ولكن لا تطلب مني سطرا واحدا أكتبه عن يوم، أي يوم من أيام الأسبوع الماضي. وإن كتبت فسيكون بصعوبة بالغة ولن يفي بأي غرض”. أدرت وجهي نحوه مشجعا وقلت “لا تكتئب يا صديقي فقد قرأت منبهرا لأدباء كبار في المكانة وفي العمر تصدوا للغزو الإلكتروني حتى استعادوا من براثنه طاقة التركيز قبل أن يبددها واستخلصوا لحظات فراغ طال الحنين إليها”.


تدخل زميل قديم محتجا ليقول “أسمعكما تعتذران للناس بالنسيان. لست أفهم ما دخل الناس بذاكرتيكما ولماذا الاهتمام بهم وبما يظنون. أنا شخصيا أرفض سمعة النسيان وأفضل عليها شبهة الإهمال ورفض الالتزام. لا أحد يحق له استجوابي. لقد أديت واجبي كاملا تجاه كل الناس والمجتمع. لست مدينا لأحد. من حقي أن أتصرف كما أشاء، لا أحد يعاتبني على موعد أخلفت أو وعد بلقاء لم أوفيه. أنا الآن ملك لنفسي، ولنفسي فقط، تفعل بي ما تشاء فعله وأفعل بها ما تسمح لي بفعله”.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version