طلال سلمان

عن ميشال اده.. الذي لن يغيب

عاش ميشال اده في عالم ابتناه لنفسه، مغادراً العصبيات جميعاً، في طليعة اهدافه مواجهة الصهيونية ومشروعها الاسرائيلي على حساب شعب فلسطين، بمسلميه ومسيحييه.. ولقد كتب ونشر ما يملأ مجلدات، وحاضر في عواصم عدة عن الصهيونية ومخاطرها المدمرة على اليهود، قبل النصارى والمسلمين وبعدهم.

لم يكتفِ بشهادة المتفوق لممارسة المحاماة، بل أغنى نفسه بثقافة عصرية، وبشبكة من العلاقات مع المفكرين والكتّاب من اهل الصحافة في الشرق والغرب.. ودرس الماركسية وفهمها من دون أن ينتسب إلى الحزب الشيوعي، وان عاش صديقاً للمستنيرين من مفكريه وقيادييه.

وخلافاً للكثرة ممن امتهنوا السياسة فانه ـ وبرغم ايمانه العميق بالإنسان ـ تجنب “احتراف العمل السياسي”، وغاص في الثقافة فثبتت ايمانه بالخالق وقربته من الناس، فانطلق ينصر الضعيف ويتبرع للمؤسسات الجامعة، ويجتهد في تحطيم الحواجز بين المؤمنين.

المجالس بالامانات: “المهضوم” ميشال إده!

مجلس ميشال اده مفتوح دائماً حتى حين يكون في السيارة او على جناح الطائر الميمون متنقلا لمتابعة مصالحه المتناثرة بين القارات الاربع في انتظار ان تتيح له الظروف اقتحام اوستراليا ومن بعدها الارض الجديدة.

ولمجلس ميشال ادهسمات محددة ابرزها انه مجلس ضاحك، وانه لا يهمل شيئا ولا يغفل عن امر، ويمر بالتحية على العديد من المسؤولين والسياسيين ورجال الاعمال المقيمين منهم والمغتربين ورجال الاكليروس الاحياء منهم والاموات، بغير ان ينسى الذين كنزوا الذهب والفضة من تجارة الايقونات حاملة صور القديسين!

وميشال عالم علامة في موضوعات جمة اهمها الماركسية، وهو يتحدث كصديق شخصي للينين ولروزا لوكسمبورغ على وجه التحديد، ثم الصهيونية التي يحفظ تاريخا وبروتوكولاتها واسماء رجالاتها عن ظهر قلب، ويحسن استخدام علمه الغزير ليس فقط لكشف امية الاخرين بل اساسا لاحتكار حق الكلام وفرض الصمت الاجباري عليهم مداراة للجهل واحتراما للعلم الغزير!

كذلك ميشال خبير محلف في الشؤون الاقتصادية، يعرف كيف تتوالد الدولارات، وكيف تتحول الليرات الى مناصب ومراكز وصفقات، ويذكر الوقائع بالاسماء: “بس مش على لساني، الله يخليك”، ثم يستدرك توكيدا للامانة: “هيك سمعت، دققوا انتم بالموضوع، بس اما لا احب ان احتكر المعرفة”!

اما في المآكل وعلم المطبخ فميشال اده “ذواقة” بامتياز، يتلذذ وهو يستعد للاكل، ويتلذذ وهو يأكل، ويحدثك ـ بعد الاكل ـ عن الاكل، ويتلمظ “طربا” فيجوع ويقوم مستعجلا حتى لا يتأخر عن الاكل.

وله في الاكل تراث، وله معه حكايات بعضها صار من الفولكلور الشعبي والنوادر التي يمكن ان تضاف الى حكايات جحا واهل الفضول.

واشهر حكاياته مع الملوخية التي قد يضيع مقعداً في وزارة حتى لا يحرم منها او يضطر الى اكلها بشروط الخصم او الطباخ الذي تنقصه لوثة الفن.

وكثيرون يحفظون ويروون بتلذذ (في الحكي) نادرته الشهيرة مع الملوخية ابان حصار بيروت، وهي التي كادت تحدث حربا في قلب الغزو الاسرائيلي وكادت تورط جماعة الدولة آنذاك في ما لا تحمد عقباه!

فبين “اوعى تسقطها يا جورج…”، وبين “يللا جورج، سقطها هلق، هلق، فورا، انا صرت بعبدا”، ضاعت مخابرات جوني عبده وداخ جهاز التنصت التابع للمرحوم بشير الجميل، واضطرب تحالفها مع المخابرات الاسرائيلية لانها لم تعرف كيف تحدد لها ماذا سيسقط جورج، على وجه التحديد بناء لاوامر الوزير ميشال اده.

وكما في علم الكلام، فان ميشال اده متوازن في علاقاته السياسية، وهو حريص على مصادقة الجميع وعدم القطع مع اية جهة، ويذكر له انه حين كان وزيرا للاعلام فتح باب الوزارة لناس لم يدخلوها من قبل ابدا، فصار يستقبلهم ويوزع صورهم معه على الصحف، ثم انه فتح التلفزيون لكل راغب في ايصال صوته وصورته وطروحاته الى الجماهير العريضة… كل هذا من غير ان ينسى نفسه.

فـ”ابو الميش” يحب ان تسجل له الاذاعة، او محطات التلفزيون، او الصحف، ندواته ومحاضراته المتنوعة الموضوعات، ولكنه كره “التسجيل” و”نقز” فنفر منه يوم وجد مسؤولا كبيرا يطلب رأيه في امر خطير فلما هم بالكلام ضغط المسؤول زر التشغيل في جهار تسجيل كان على الطاولة امامه.. ويعقب ميشال اده: “مش معقول، شوه الحالة اللي وصلنا لها.. شو انا عبد الوهاب او فيروز او ام كلثوم حتى يسجلوا لي صوتي.. ولو لهون وصلنا؟! وقدام عيوني كمان؟!”.

وميشال يتجنب فتح سيرة اقاربه، ولا سيما، ريمون اده، ويهرب من اعلان رايه في مسلكه السياسي، ولكنه يختم بما يجعلك تستنتج انه لا يزعل كثيرا من اخطاء العميد، كما من اخطاء أي مرشح ماروني آخر لرئاسة الجمهورية، فهم يفترض ان أي نقص، في قائمة المرحشين يزيد من حظه هو.

اما بالنسبة لقريبه الآخر روجيه اده فهو متفق في الرأي مع العميد: “هيدا اخوت، يقرأ الصحف الاميركية ثم يبيعك ما تنشر كمعلومات خاصة، ويوقع بالحرفين الاولين من اسمه “ر. اده” ليوهم الناس انه انا…”.

المهم، ان ميشال اده يلتفت اليك بعد كل حكاية او تادرة او تحيليل، ويغمزك، ويسألك مستدرجا جوابك بالموافقة: “مهضوم، بشرفك ما تقول لا… كهضوم”.

وتوافق حتى لا تكر سبحة “التحولات الرقيقة” المواجهة الى من بيدهم الامر او من يعنيهم الامر، مما يمكن نشره في صحيفة سيارة.

السفير، 26 كانون الثاني 1986

رجل يعتز به لبنان: فكراً وثقافة وإنسانية..

ليس كمثل ميشال إده أحد، لا بين السياسيين وقد تميز عنهم بالصدق والثقافة ويقظة الضمير ونبذ التعصب ونظافة الكف، ولا بين أهل القانون وقد اتخذه مدخلاً إلى الحق والعدل ولم يجعله وسيلة لتزوير الصح، ولا بين أهل الإيمان الذي أخذه إلى الله الواحد الأحد فلم تكن طائفته سجناً لعقله أو لقلبه يبعده عن سائر المؤمنين.

ولقد نجح ميشال إده الذي ربّاه والده سليم إده بصرامة الأب الصالح وعامله كرجل وهو فتى غض الإهاب، فاحتل مكانة مميزة حيثما توجه: في مجال الأعمال. كما في رحاب القانون.. وجاب الآفاق انطلاقاً من لبنان إلى أفريقيا فإلى أوروبا فإلى أميركا، فبنى صداقات واخترق مجالات صعبة، بصمت ومن غير تباهٍ.

ولقد اقترب ميشال إده من السياسة من دون أن يحترفها… وكان صديقاً وقريباً من العديد من الرؤساء ولكنه لم يطلب من أحدهم شيئاً، حتى استدعاه الرئيس الراحل الياس سركيس فوزّره، وقد ساهم في محاولة صياغة حل لأزمة بنك انترا التي كادت تطيح الاقتصاد اللبناني جميعاً… ثم اختاره الرئيس الراحل رفيق الحريري ليكون وزيراً في ثلاث من الحكومات التي شكّلها في التسعينيات.

هو، من دون مبالغة أحد أعرف العرب عموماً بواقع الحركة الصهيونية وتاريخها وتقسيماتها السياسية والاجتماعية والعسكرية… ولقد حاول جهده تعميم المعرفة بهذه الحركة ومشروعها الاستيطاني الإرهابي على حساب شعب فلسطين (وسائر العرب)، فقصد منتديات دولية محاضراً، وكتب ونشر وأذاع جملة من الدراسات الجادة المستندة إلى وثائق لا تدحض عن هذا الاستعمار المقنّع بالدين والاحتلال المموّه بأساطير تاريخية لا وجود لها في التاريخ… ولقد تجاوز بجهده هذا لبنان إلى سوريا وإلى أوروبا وبعض مصر فكتب ونشر وقدّم برامج إذاعية تُظهر حقيقة الصهيونية كحركة عنصرية ـ استيطانية تزوّر التاريخ وتقتل أهله، وتدّعي مُلكاً في أرض لم يعرفها دعاتها وكانت على امتداد الزمن لأهلها الذين ظلوا أهلها حتى اقتلعتهم منها القوة الاستعمارية العاتية.

في ضوء إيمانه هذا صكَّ شعاره المعروف: مقاومة صهينة لبنان والوصول إلى لبننة إسرائيل.

ولقد حذّر من هدم المسجد الأقصى ودعا إلى خطط عربية لإنقاذه… مؤكداً «أن إسرائيل تريد «سايكس ـ بيكو» صهيونية، وهذه شرارة لحرب عالمية ثالثة».. خصوصاً وأن القادة الصهاينة يفكرون بتطهير عرقي تدريجي على طريق القمع وحرمان الفلسطينيين من مقومات الحياة. وإسرائيل تخطط للتوطين وسط تواطؤ دولي وصمت عربي مريب».

..وفي تعليق على ممارسات جنرال الحرب الإسرائيلي أرييل شارون قال ميشال إده: «إنه يطلق رصاصة رحمة على خريطة الطريق»… وقد كان.

وكتب في مقال طويل ما مفاده: إسرائيل سائرة إلى المجهول والانهيار.. وطريقنا في لبنان وسوريا واضح وهو الصمود في مواجهة الاستراتيجية الهادفة إلى فرض الاستسلام على العرب جميعاً.. والانتفاضة الفلسطينية سوف تفرض تبدلاً نوعياً لدى الإسرائيليين في اتجاه الانتقال إلى جادة العقلانية وإقرارهم بوجوب تخلي إسرائيل عن الحل العنصري الصهيوني التوسعي العدواني..».

وفي محاضرة عن ميشال شيحا قال: أثبتت الوقائع أن نفوذ اللوبي الصهيوني يتسبب إلى حد بعيد بتعطيل الدور البنّاء الذي كان على الولايات المتحدة أن تؤديه».

ذلك أنه كان يعتبر «التركيبة اللبنانية مثالية، بينما إسرائيل مبنية على عنصرية غير مقبولة» منبهاً إلى أن هذا العدو يتعامل مع الطوائف وليس مع لبنان ككيان ويريد تعميم ذلك على سوريا والأردن والعراق وفلسطين».

من هنا كان تأييده للانتفاضة الفلسطينية التي وجهت ضربة قوية سياسياً قاتلة لإسرائيل، وأعلن رأيه: مشروع التوطين هو مشروع إسرائيلي وليس مشروعاً فلسطينياً».

ولأن ميشال إده قارئ مميز، بثقافة رفيعة وتجربــة غنــية، فقد انخرط في المجال الصحافي وساهم في الصحــيفة العريقة «لوريان» وكان بين من عمل لدمجها مع «لو جور» لكي تبــقى في لبــنان هــذه الصحيفة الناطقة بالفرنسية التي احتفلت قبل سنتين بعيدها التسعين.

كان معجباً بالدور الاستثنائي الذي لعبه المفكر المميز ميشال شيحا (الذي تربطه به صلة نسب) والذي «خاطبنا في حياته ويخاطبنا بعد موته، وفي وداعه لنا أوصانا بالقدس».

وقد رأى في رفع شعار إلغاء الطائفية السياسية ملهاة.. واعتبر الصيغة اللبنانية رداً حياً على الترويج الخبيث لصراع الحضارات.

إن ميشال إده أرحب فكراً وممارسة من هذا كله:

إنه رأس عائلة مميزة بتفوق أبــنائها جميعاً علماً وكفاءة، والنجل الأكبر سليم قدّم للبنان متحفاً فريداً في بابه، احتضنته الجامعة اليسوعية، يقصده الطلاب وأهل العلم ليفــيدوا من معروضــاته العلمية التي تؤكد قدرة العقل الإنساني على بناء مستقبل أفضل للإنسان.

وعند حديث العائلة يطل ميشال إده العاطفي والحنون، لا سيما متى استذكر الأحفاد، وتحس أنه قد رسم لهم ضمناً مستقبلهم وأنهم على طريق تنفيذ مخططه وإن لم يطلعهم عليه مسبقاً.

ثم إن ميشال إده الإنسان ينفق الكثير من ماله على الجمعيات والمؤسسات الخيرية من دون توقف أمام الانتماء الطائفي والمذهبي.. وبالتأكيد فإن مئات من المتخرجين بتخصصات علمية متقدمة يحملون التقدير الخاص لهذا الرجل النبيل الذي وفر لهم المنح والمساعدة من دون منة أو تباهٍ.

أما ميشال إده الإنسان فهو طريف يضحك للنكتة ولو كانت عليه، وهو صديق صدوق، محب للناس، يكره النفاق والمنافقين، ولا يداري في الجهر بموقفه السياسي، وقد كان مع المقاومة التي جاهدت لتحرير الأرض المحتلة، وشارك في احتفالاتها بالنصر، وما زال على صلة ثابتة برجالاتها.

إنه نموذج فريد في بابه: إنه مسيحي يتمثل بالرسل لا بالكهنة، ولهذا لم يعرف التعصب حتى عندما اختير لرئاسة الرابطة المارونية، ثم عندما اختارته البطريركية لترؤس جمعية الانتشار الماروني.

ولقد نشأ، وهو البورجوازي العريق، يسارياً، وكثيراً ما قدم المساعدات إلى المنظمات اليسارية، وشارك في أنشطتها.

ميشال إده يكاد يكون نسيج ذاته: إنه ابن عائلة عريقة، ويجمعه النسب بأبرز العائلات البورجوازية، ولكنه متفرد في موقفه الفكري وفي ثقافته الواسعة كما في آرائه السياسية، وكذلك في علاقاته الإنسانية.

وبالتأكيد فإن مئات من الطلاب ومن مختلف الطوائف الذين تمكنوا من إكمال دراساتهم العليا يحفظون له الجميل، إذ لولاه لما تمكنوا من دخول الجامعات الممتازة في لبنان والخارج.

ميشال إده: رجل يعتز به لبنان.

السفير، 18 آذار 2016

Exit mobile version