طلال سلمان

عن كمال جنبلاط .. القارئ

عاش معنا، في اواسط السبعينات، صحافي هندي متميز بثقافته كما بظرفه يدعى ك. ك. ساستري.. وهو قد جاءنا في بيروت من القاهرة، كمراسل لصحيفة “بومباي تايمز”.

ولما انفجرت الحرب الاهلية ـ العربية الدولية في لبنان، اواسط العام 1975، طلبت الصحيفة من مراسلها العودة فوراً إلى الهند. لكن ساستري كان يجد نفسه في موقع الحدث، وكان صعباً عليه أن يترك “الجبهة” التي تصطرع فيها قوى العالم اجمع، محلياً وفلسطينياً ثم عربياً ودولياً بطبيعة الحال..

أما الصحيفة فكانت “تخاف” على حياة مراسلها الممتاز، وبالتالي فقد الحت عليه بالعودة حرصاً على سلامته.. وبعد رسائل تحذيرية عدة، هددت الصحيفة مراسلها “بالطرد” أن لم يعد إلى بومباي فوراً!..

جاءني ك. ك. ساستري يشكو ظلم اصحاب الصحيفة، مقرراً أن يستجيب، أخيراً، لمطالبتهم بل لإلحاحهم عليه بالعودة… ثم استدرك فقال: انت تعرف انني، على عكس الهنود كافة، لست معجباً بشخصية كمال جنبلاط. انني احترمه كمفكر سياسي، ولكنني اختلف معه في الكثير من مواقفه.

قلت: نعم، اعرف موقفك، فما المشكلة؟

قال ساستري: لا استطيع أن اعود إلى الهند ثم يعرف رئيس التحرير وسائر الزملاء في الجريدة، وعموم الهنود، انني مكثت في لبنان ثلاث سنوات واكثر من دون أن التقي كمال جنبلاط، ولو مرة واحدة..

اتصلت بالزعيم الراحل طالباً موعداً لي ومعي ساستري، فأراد جنبلاط أن يكرم هذا الصحفي الهندي، مستغرباً انه لم يتعرف اليه من قبل، ثم تكرم فجعل الموعد إلى مائدة غداء في منزله “قرب فرن الحطب”، كما كان العنوان الدارج لمنطقة سكنه في المصيطبة.

عند الساعة الثانية عشرة، جاءني ساستري وهو يحمل لفافة تضم كتاباً، وقال لي وهو يرقص فرحاً: سأفاجأ هذا الزعيم الاستثنائي في ثقافته وفي معرفته العميقة بالفلاسفة الهنود عموماً، بهذا الكتاب الجديد لواحد من أهم الفلاسفة، والذي تربطه صداقة عميقة معه..

ذهبنا معاً واستقبلنا الزعيم فائق التهذيب بالترحاب، وجلس الينا، وباشرت الكلام بتعريفه إلى زميلنا الهندي.. فكرر جنبلاط ترحيبه بنا بود.

وقف الزميل ك. ك. ساستري، وانحنى مرة ثم ثانية، قبل أن يتقدم منحنياً من كمال جنبلاط وهو يقدم اليه الهدية ـ المفاجأة، وهي ملفوفة، ومن حولها شريط معقود، يخفي عنوان الكتاب.

قال كمال جنبلاط وهو يتناول “الهدية” ـ يا عمي اوعى يكون الكتاب الجديد للفيلسوف الهندي (فلان..)

هتف ك. ك. ساستري بفرح: انه، بالضبط ، هذا الكتاب الجديد..

قال كمال جنبلاط بهدوء: صدق، لقد ارسل الي “البروفات”، قبل الطبع، لكي اصحح مواقع الخطأ فيها..

فغر ك. ك. ساستري فمه، وخفت أن يُغمى عليه، بينما كمال جنبلاط يفتح اللفافة ويخرج الكتاب الذي لم ينزل إلى الاسواق، وهو يقول: أن هذا الفيلسوف قد اضاف جديداً إلى الفلسفة العالمية وليس الهندية فحسب.. وانا شاكر لك هذه الهدية الممتازة.

صمت قليلاً، ملاحظاً اضطراب ساستري، وشعوري، شخصياً، بالمفاجأة، ثم قال: هيا بنا إلى المائدة!

وقمنا إلى المائدة صامتين، وكان على كمال جنبلاط أن يبذل مجهوداً لاستدراج ك. ك. ساستري إلى الكلام مجدداً!.

 

 

 

 

Exit mobile version