طلال سلمان

عن “قمة” التنازلات الجديدة في عمان

اختلفت وظيفة القمة العربية اختلافاً جذرياً مع غياب مبتدع فكرة انعقادها الدوري سنوياً، الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والقادر على جمعها استثنائياً كلما دعت الحاجة.
وبعدما كانت احدى مهمات القمة توحيد الصف العربي، ولو “بخطى أضعفهم”، صارت المهمة الوحيدة للقمة العربية تنظيم التنازل العربي، منهجياً، التحاقاً بمسيرة الرئيس المصري انور السادات، بمعزل عن قراءة دروسها والاتعاظ بنتائجها الدموية المشهودة.
هكذا تحولت القمة من رافعة للعمل العربي المشترك وحاجز امام التنازلات إلى مؤسسة تنظيم التنازل والتفريط، بذريعة العجز عن مقاومة العدو الذي لا يُقهر، اسرائيل، المعزز بالتأييد الدولي المفتوح تحت الراية الاميركية.
ومع أن بعض أصوات الاعتراض ظلت ترتفع، احيانا، فتحد من التنازل او تؤخره، الا أن مسيرة التنازلات تواصلت حتى بلغت وهدة خطيرة، عبر القمة العربية في بيروت (في العام 2002) والتي تُوجت بالمبادرة العربية التي قدمتها السعودية ووافقت عليها القمة مقدمة مجموعة من التنازلات الاضافية حتى كادت دولة العدو الاسرائيلي تصبح “دولة شقيقة”.
بعد ذلك سيشن الاميركيون الحرب على العراق، بذريعة التخلص من صدام حسين، (العام 2003)، موجهين تهديداً مباشراً إلى سوريا بلسان وزير الخارجية الاسمر كولن باول، فيفهم “اهل القمة” الرسالة، ويسرعون خطاهم في التنازل عن حقوق الامة، بعنوان فلسطين.
…ولسوف تنفجر او تفجر الحرب في سوريا وعليها، قبل خمس سنوات، فيضعف موقفها المعترض، خصوصاً وقد شارك كثير من الدول العربية فيها.. ثم أن هذه الدول ما لبثت أن جعلت الجامعة العربية “تتجرأ” على احدى الدول المؤسسة لها، سوريا، فتتخذ قراراً همايونياً “بطرد” الدولة السورية وإعطاء مقعدها في الجامعة لمجاميع من المعارضات السورية، المقاتلة بتمويل وتسليح وتدريب توفره دول عربية أخطرها امارة من غاز.
خلال السنوات الماضية حصلت تطورات خطيرة في المنطقة ولّدت تنازلات اضافية، لاسيما وقد حوصر “مشروع” السلطة الفلسطينية وتم تقزيمه حتى أصبح اسيراً قيد الاعتقال في سجن التفوق الاسرائيلي على العرب مجتمعين.. وصار “التحرير” حديث خرافة، وتقزم المطلب بالحرص على استمرار “السلطة” على قيد الحياة.
ها نحن عشية القمة العربية الجدية التي ستلتئم ناقصة النصاب، مرة أخرى في عمان، وقد سبقتها التطورات التالية:

أولاً – أن رئيساً اميركياً جديداً قد دخل البيت الابيض، خلفاً لبارك اوباما من موقع الخصومة بشهادة حملة التشهير التي شنها ويواصل تغذيتها دونالد ترامب، يومياً، ليؤكد الافتراق بينه وبين سلفه الاسمر نصف المسلم.
ثانياً – أن الحرب في سوريا وعليها ما تزال مستمرة، وما تزال عضويتها في الجامعة العربية معلقة، وان تم سحب مقعدها من اشتات المعارضات التي تلفعت مؤخراً بالعباءة السعودية، لتغطي هزائمها في الميدان، بعد دخول روسيا طرفاً مقاتلاً إلى جانب النظام اضافة إلى ايران ومعها “حزب الله” في لبنان.
ثالثاً – أن الرئيس الاميركي الجديد قد حدد، مبدئياً، خط سيره في التعاطي مع القضايا العربية، وفلسطين منها في الطليعة… وهكذا فقد بادر، في لفتة ذات دلالة إلى تخصيص الملك سلمان بن عبد العزيز بالاتصال الهاتفي الاول…
رابعاً – حرص الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن يكون بين اوائل المتصلين لتهنئة ترامب، والتأكيد على العلاقة المميزة التي تربط بين القاهرة وواشنطن، مذكراً بأنه تلقى التدريب والتأهيل لدى القوات المسلحة الاميركية.
خامساً – برغم ازدحام جدول اعمال الرئيس الاميركي بالمواعيد، فقد وجد وقتاً قصيراً للقاء الملك عبد الله الهاشمي، خارج المكتب البيضاوي، مع وعد بأن يستقبله – رسمياً – بعد القمة، ربما ليستمع منه إلى تقرير حول مجرياتها..
سادساً – أقدم ترامب على ما لم يجرؤ عليه غيره من الرؤساء الاميركيين ، في ما عدا كلينتون، اذ دعا رئيس السلطة الفلسطينية إلى لقائه في البيت الابيض، مع اختلاف المناسبة.
سابعاً – خرق الرئيس الاميركي البروتوكول للتدليل على حفاوة استثنائية بزيارة ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، اذ استقبله رسمياً في البيت الابيض، ثم عقد معه ووفده جلسة محادثات رسمية (ومصورة) جلسا فيها متواجهين من حول طاولة رئاسية، بكل الدلالات التي تحملها هذه الصورة والتي لا بد يفهمها سائر الامراء المتصارعين بصمت، على خلافة الملك سلمان، ولا سيما منهم ولي العهد الامير محمد بن نايف..
ثامناً – بسحر ساحر سقطت “الخلاقات” التي عكرت صفو العلاقات بين القيادة المصرية و”السلطة الفلسطينية”، وقصد محمود عباس إلى القاهرة بدعوة من الرئيس السيسي.. “لتنسيق المواقف في القمة العربية”.
تاسعاً – تم تحديد موعدين للقاء الرئيس الاميركي مع مسؤولين عرب، بعد القمة مباشرة، الاول للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والثاني لرئيس الحكومة العراقية الدكتور حيدر العبادي.

******

من قمم توحيد الصف، منعا لانهيارات او انحرافات او سقطات تؤذي “القضية المقدسة” او تذهب بالإجماع من حولها، ولو في البيانات وصور “القادة المخلدين” يتلفعون بعباءاتهم المقصبة ويتساندون في اللقطات التاريخية، سيكون انجاز بيان التنازلات الجديدة، في قمة عمان مكرساً لتعزيز موقف رئيس السلطة الفلسطينية التي لا سلطة لها، محمود عباس، في لقائه المقرر مع الرئيس الاميركي المحاصر، عاطفياً وموضوعياً، بالصهاينة وليس فقط باليهود..
من تلك القمم التي حاولت الحد من خسائر القضية المقدسة، إلى قمة عمان، التي تُغّيب عنها سوريا، مرة أخرى، سنشهد فصلاً جديداً لعله سيكون الاخطر من فصول التنازل عن “الثوابت” و”البديهيات” التي تجعل من فلسطين “قضية مقدسة”.
سيكون العنوان “إحياء المبادرة العربية”، ولكن واقع العرب مختلف جداً اليوم، في 2017، عما كان عليه الحال قبل خمسة عشر عاما، في بيروت في مثل هذه الايام من العام 2002.
إن خمس عشرة سنة من التنازلات، و”حروب الاخوة” التي دمرت وتدمر بعض أخطر عواصم التاريخ في دنيا العرب، من بغداد إلى دمشق، ومن طرابلس إلى صنعاء التي عجز الغزاة عن دخولها على مر التاريخ..
إن خمس عشرة سنة من التنازلات و”حروب الاخوة” ستصيب بأضرار فادحة العرب جميعاً بعنوان قضيتهم المقدسة، فلسطين..
خصوصاً وان اسرائيل التي تعيش حالة غير مسبوقة من غرور القوة، فلا تكتفي بالإغارة على الداخل السوري (قرب تدمر) بل هي تعلن أن محاولة صد طائراتها الحربية الذاهبة إلى تدمير اسباب القوة في سوريا ستجعلها توسع نطاق هجماتها ليشمل سوريا جميعاً.
… ولعل القيادة الاسرائيلية تفترض أن هذا التهديد قد يُنعش ما تبقى من “المعارضات السورية”، كما انه قد يسرع من خطوات التطبيع بين “من تبقى من العرب” والعدو الاسرائيلي،
… خصوصاً وان الاتصالات (السرية؟!) بين العدو الاسرائيلي وبعض دول الجزيرة والخليج العربي، تتوالى وتظهر إلى العلن، فلا يجتهد ابطالها في نفي حصولها بل انهم يبررونها ويهاجمون “المزايدين” الذين يعترضون عليها فيتهمونهم بأنهم يعيشون خارج العصر.
حماك الله يا فلسطين من القمم العربية وأهلها.

ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version