طلال سلمان

عن فلسطين المضيعة بين عدوها الإسرائيلي ـ الأميركي ـ وعرب الثروة

كنا بحاجة لمن ينتشلنا من المأساة المفتوحة على المجهول في اليمن، بضحاياها الذين يتراكمون قتلى وجرحى وأطفالاً تفتك بهم الكوليرا، قبل أن يسقط “ماكر اليمن” ورئيسه لمدى دهر علي عبد الله صالح برصاص مغامراته وتقلباته واستنزافه قدرات شعبه، بعدما اغراه بإدمان القات لينسى همومه.

ولقد جاءتنا النجدة من دونالد ترامب الذي أقدم على ما لم يستطعه الاوائل: فوقّع على القرار ـ الجريمة، معترفاً بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، مستهينا بالقرارات والبيانات والتصريحات النارية لملوك العرب ورؤسائهم تحت عنوان “لتنسني يميني إن نسيتك يا فلسطين!..”

كان القرار ـ الصدمة متوقعاً، فترامب يختلف بأميته وجهله بالتاريخ عن أقرانه الرؤساء السابقين، وفيهم الذكي والغبي والمغامر والمقامر والحيسوب، بأنه لا يعرف غير المضاربة بكل ما تعنيه من فنون المقامرة ومحاولة تعويض الخسائر المحتملة بزيادة حجم “الضرب” او “العملية”..

فعلها ترامب مطمئناً إلى أن “العرب” قد عادوا قبائل شتى، ببطون وافخاذ متعددة، بعضها من ذهب اسود يصب عنده، وغاز ابيض يأتي اليه سائلاً، اما البقية ففقراء يضيعون ثرواتهم ومعها ارضهم عبر مغامرات عسكرية بائسة، كما صدام حسين، او عبر “نظريات” مستولدة من خارج الفكر والمنطق وان ظلت تعتمد في ترويجها على الذهب الاسود، كما كانت الحال مع معمر القذافي..

لا وجود للبؤساء، فقراء وأبناء سبيل وضحايا حروب اهلية مفتوحة، سواء تحت عنوان “داعش” وسائر العصابات الارهابية، او نتيجة الصراع على السلطة الذي يضيع مع البلاد شعوبها بحاضرها ومستقبلها والثروات والقدرات الظاهرة او الكامنة، او بعنوان الارتهان للخارج وفقدان الارادة، والعزيمة واحترام الذات.

أقدم الرئيس الاميركي ترامب على الحماقة التي تجنب ثلاثة او اربعة من سابقيه في البيت الابيض ارتكابها، لتقديرهم انها يمكن أن تفجر المنطقة، بعروشها والملوك، بالحكومات المتهالكة، بالرؤساء الغائبين عن الوعي، كما بوتفليقة، او العاجزين عن القرار وبالتالي التأثير لنقص في شرعيتهم او في قدراتهم.

على أن الوضع الفلسطيني، تحديداً، هو أكثر ما “شجع” المضارب الممتاز دونالد ترامب، على اتخاذ قراره المهين للعرب جميعاً، بعنوان قضيتهم المقدسة، وللمجتمع الدولي، عموماً، الذي لا يفتأ يقدم التنازل تلو الآخر للاحتلال الاسرائيلي بعنوان نتنياهو، والاستسلام العربي للمشروع الاسرائيلي، بعد انقسام الامة بين اغنياء لا يريدون “المغامرة” وفقراء لا يقدرون على المواجهة المفتوحة باتساع الكون والتي سيتخلى عنهم فيها اخوتهم المذهبون.

إن الوضع الفلسطيني يسابق سائر الاوضاع على التردي، وعلى تبرؤ “قيادته” من مسؤولياتها تجاه قضيتها المقدسة، التحاقاً بسائر الانظمة العربية وتشبها بها، ابتداء من اللباس إلى التصريحات، إلى التصرفات “الرسمية” في المحافل العربية والدولية.

إن “السلطة” قد غادرت “الثورة” منذ زمن بعيد..

لقد غادرت “القيادة الحكومية” الفلسطينية موقعها الثوري منذ زمن بعيد، يمكن تحديده مع ذهاب “الرئيس” عرفات إلى الامم المتحدة، مغادراً “الثورة” بإغراء “السلطة”، التي كانت تجربتها اللبنانية قد اخرجتها من الثورة، ودفعتها إلى احضان الدول العربية المتبارية في سرعة الانسحاب من عنوان فلسطين كقضية نضال ومواجهة مفتوحة مع الحركة الصهيونية المعززة بالاستعمار القديم بصيغته المستحدثة: الامبريالية.. وهي والدة تلك الحركة، و”الام الشرعية” للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، وإعادة اخضاع مجمل “الدول” العربية بأعلامها المزركشة، وثروات اهل النفط منهم، للنفوذ الاميركي التي تتزايد “صهيونيته” بقدر ما يتناقص تقارب العرب حتى التوحد، وتباعدهم نتيجة الثروة حتى الاحتراب والاستهانة بتاريخهم، وبيع مستقبلهم بحاضرهم وطلب الامان والاستمرار في السلطة، ولو في احضان الاستعمار الجديد او الامبريالية بعنوان دولته “الشرعية”: اسرائيل.

لقد زاد العدد في جامعة الدول العربية “واحدة” بانضمام “السلطة” “بالسيد الرئيس” فيها و”الوزراء” إلى حشد امثالهم من اصحاب المواقع المفخمة والمجللة للملوك والرؤساء العرب.. لكن “القضية المقدسة” بقيت خارجها، كما بقيت خارج الامم المتحدة، بغض النظر عن عمليات التحايل والشكليات.

فعندما قُضي على “الثورة” كان الضرر الفادح قد اصاب القضية فمسخها، وأسقط عنها غلالة القداسة التي بيعت في المزاد العلني.

*****

قد تكون هذه الكلمات قاسية بل وجارحة، لكن الوضع الراهن أقسى وأكثر ايلاماً بكثير: كانت “القضية المقدسة” عنوان نهوض الامة إلى واجب التحرير، وحماية شرف الامة العربية المهانة بالاحتلال الاسرائيلي والهيمنة الاجنبية.

لكن “النظام العربي” استطاع، مع الاسف، الانتصار على الشعب العربي.

وهو قد استطاع ذلك عبر انقسام العرب إلى حد الاحتراب، كما نشهد في اليمن، او إلى حد التآمر بعضهم على بعض، كما نشهد بين اغنياء النفط والغاز من ملوكهم والامراء ودول “الاشقاء الفقراء” مشرقاً ومغرباً..

لم تفكر دولة عربية واحدة باستدعاء سفيرها من واشنطن، أو استدعاء السفير الاميركي لديها للاحتجاج (فضلاً عن ارتكاب المحرمات: كقطع العلاقات مع الدولة العظمى).

لم تتخذ اية دولة عربية، بما فيها “السلطة الفلسطينية” أي اجراء او تدبير يفرض على من قرر هذه الخطوة المستفزة (أي الادارة الاميركية بشخص رئيسها ترامب..) أن يعيد التفكير في القرار، او حتى التمهل في تنفيذه، ولو في حركة مسرحية تشبه الضحك على الذقون.

لم تخسر الادارة الاميركية كلمة واحدة في محاولة تبرير هذا العدوان الامبريالي العلني على الامة العربية بعنوان شعب فلسطين وحقه في ارضه، وفي دولة له فيها بعاصمتها التاريخية التي يتلفظ باسمها بقداسة المؤمنون جميعاً، مسلمين ومسيحيين، باعتبارها مهد السيد المسيح ومسرى النبي العربي من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا من حوله.

من باب التذكير بالمعلوم تمكن الاشارة الى أن هذا الرئيس الاميركي المضارب في البورصة قد حصد في السنة الاولى من حكمه أكثر من الف مليار دولار، ثمناً لصفقات اسلحة لن تستخدم الا ضد شعوب الدول التي اشترتها او ضد جيرانها من الاشقاء، ولن توجه طلقة منها إلى العدو الاسرائيلي او إلى بواقي الجيوش الاميركية، ومعها “الحرس الاسود” او “البلاك ووتر” الموجود في منطقتنا لحراسة بعض الانظمة، او لتأجيج الحرب بين عناصر الامة “عرب وكرد” او لتأديب المعترضين على انظمة القمع والمقاومين لانحراف بعض الانظمة عن مقاتلة العدو إلى مقاتلة شعبها.

إن الثورات لا تتفجر بكبسة زر، او نتيجة عمل عدواني يستهدف كرامة الامة.

قد تهب بعض التنظيمات الشبابية، او بعض الفتية الذين آمنوا بربهم وبأرضهم فزدناهم هدى.

لكن تحرير الارض يحتاج إلى ما هو اكثر من هبة الغضب، وأعظم من التظاهرات الحاشدة التي ستبادر انظمة القمع إلى تفريقها بالقوة..

اننا مجدداً أمام المهمة التي هربت منها الانظمة العربية، وحاولت طمسها بالإرهاب والتخويف بالقمع او شراء بعض القيادات او المنظمات بالدينار او الريال او الدولار، لا فرق..

*****

إن شعب فلسطين محاصر حتى الاختناق،

ثم انه منقسم على ذاته بفعل خلافات المنظمات التي كانت تحمل راية الثورة، فاستبدلتها بمناصب السلطة، نتيجة اليأس او التعب او فقدان اليقين.

إن العدد الاكبر من الشعوب العربية غارقة في يأسها من ذاتها، بعد دهور من القمع الممنهج، والانتصارات الوهمية التي لم تنجح في طمس الاخفاقات والانتكاسات والهزائم..

إن العرب يقتتلون ولا يقاتلون،

إن العرب ينتحرون ولا يحررون،

إن العرب يعيشون متأرجحين بين المرارة واليأس، وقد فقدوا القدرة على القرار،

لقد تم تدجين العرب على أيدي انظمتهم التي قاتلتهم، كشعوب، بدل أن تقاتل العدو..

ثم أن العرب، بأجمعهم، مقموعون، وقد نابت انظمتهم القمعية عن عدوهم الاسرائيلي، في قمعهم..

إن العرب يواجهون خطر الاندثار كأمة، كهوية جامعة، كتاريخ واحد موحد، كحاضر بائس يقضي على آمالهم وحقوقهم وطموحاتهم إلى التحرر والعدالة والكفاية مع الكرامة..

إن العرب مقيدون، مكبلون، فاقدو القدرة على تحرير ارادتهم.

ولسوف تظل فلسطين رهينة وغنيمة يبتلعها العدو الاسرائيلي قطعة قطعة، مدينة مدينة، قرية قرية، حتى ينتبه العرب من غفلتهم ويقررون انهم امة تستحق الحياة.

وفي انتظار ذلك اليوم سنبقى شهود زور على اضمحلال دولنا، وتذويب هويتنا الجامعة، وخسارة القضايا المقدسة.. نبكي على أطلال ماضينا وحاضرنا بينما مستقبلنا يضيع منا.

تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية

Exit mobile version