طلال سلمان

عن غسان تويني الذي لا يغيب…

البداية تحية لهذه الجامعة حديثة النشأة، عريقة في احترام الأصول، وتشمل تحيتها، بالتأكيد غبطة البطريرك المؤسس إغناطيوس الرابع هزيم، الذي أفترض انه يشاركنا استذكار من لا ننساه غسان تويني،كما تشمل صديقه وخلفه اللدود الدكتور ايلي سالم.

وتحية خاصة لمن جاء يستضيفنا، مع الجامعة من أهل “النهار”، وفيهم الزميلة الرقيقة نايلة، رئيسة التحرير، والوزير الصديق مروان حمادة، وسائر المتورطين في مهنة المتاعب التي نسيت كيف دخلتها، ولا أعرف طريق الخروج منها.

وبعد،

رزق الله على أيامك، أيها الأستاذ في الصحافة ولو في موقع الوزير، وفي الأخبار والأسرار، ولو في موقع كاتم السر، وفي التعليقات والتشنيعات ولو في موقع المستشار، وفي الثقافة كما في السياسة ولو في موقع رئيس جامعة محترمة كالتي تكرمك اليوم وتكرمنا بوقوفنا على منبرها في ذكراك، أيها الذي لا يغيب…

رزق الله على أيام الصحافة، أيها الكاتب المغرد، المخبر الممتاز على مكر، المحلل المجلي من موقع العارف وإن تقصد اتخاذ السؤال وسيلة للإيضاح..

لقد بدأت معك، ومع سابقك وصديقك الراحل كامل مروه مرحلة التجدد والشراكة في الرأي والموقف للصحافة في السياسة وفي الشأن الاجتماعي، ثم كان علينا أن نتابع الرسالة وان نضيف ونجدد من داخل قواعد المهنة وأصولها وان اختلفت المواقف في السياسة.

وأصارحك،الآن، أيها الغائب الحاضر: لقد انتهت عشية رحيلك الصحافة في لبنان، وهي التي شهدت معك وعلى يديك، مع الراحلين كامل مروه وسعيد فريحة ورياض طه وسليم اللوزي، ازدهارها في صحراء الجهل وعسكر الحزب الواحد الذي يتحسس مسدسه كلما سمع رأياً مغايراً لقراره الهمايوني..

وها أن ” السفير ” قد أقفلت أبوابها حتى لا تعاني ما تعاني نهارك من أزمات في المهنة قبل السياسة وفي المبيع والإعلانات قبل الأخبار التي اندثرت أو تكاد اللهم “الدواعش” التي صارت مركز الحدث، في حين صارت الوفيات مصدر دخل أول قبل المبيع وبعده.

وكيف تكون صحافة ولا سياسة، وأهل النظام يجددون لأنفسهم بأنفسهم ولا أمل بتبديلهم أو تغييرهم إلا بإرادة واهبِ الحياة مقررِ الساعة محددِ الميعاد.. وهو وهاب كريم!

ولقد كنت من موقعك الملتبس بين السياسة والثقافة والصحافة بين صناع السياسة، معارضاً من موقع الوزير، مقاتلاً بالرأي من موقع النائب، وان غلبتك دائماً ملكة الصحافة التي لم تغادرها ولم تغادرك، حتى في ذروة مأساتك – مأساتنا التي أدمتنا جميعاً صبيحة جريمة تغييب جبراننا، وواجهتها بإيمانك وأنت تدور في الكنيسة، بين عائلتيك، في المهنة والرحم، كبيراً في حزنك كما في الفرح.

أيها الأصدقاء،

لم أتشرف بزمالة غسان تويني إلا متأخراً عنه عقدين من نجاحه في “النهار” التي جعلها الأولى، هو الذي طالما شدته السياسة فغالبتها الصحافة فإذا هو المُخبر والكاتب، المحلل والمعلق، صاحب الرأي من موقع المعترض، والمستشار من موقع المدافع عن خصمه نتيجة رفضه أن يكون الموقع رشوة للصمت…

كذلك لم أتشرف بالتتلمذ على يدي غسان تويني، في مؤسسته متعددة العنوان، المجدد في الصحافة، بعد كامل مروه ومعه، بل لعلني كنت خليطاً من التلميذ والمتابع المعجب ثم الصديق وبعد ذلك المنافس، فالمزاحم إلى حد إغوائي بالشراكة، إعلانياً على الأقل، على يدي المعلم انطوان الشويري.

أما في الموقع السياسي فكنت أراه الخصم المهاب، بثقافته وسعة اطلاعه ومعرفته بالدنيا، شرقاً وغرباً، بموقعه الجامعي الذي أهّله لأن يكون – ذات يوم – رئيساً لهذه الجامعة التي نتشرف اليوم باعتلاء منبرها للحديث عنه.

أما في الموقع المهني فقد تعلمت منه كثيراً من الدروس، أخطرها مخالفة السائد والتصدي للخطأ ولو وحيداً.. حتى وان كان الثمن الوزارة. ولعل هذا الأمر، بين أمور أخرى، ما جعل الصداقة تغلب المنافسة وان لم تلغها، وهكذا تعايشنا متنافسين بشرف، على التباعد في الموقف السياسي.

ومع أن والده الراحل، جبران تويني، قد مارس الصحافة في مصر، ثم جاء منها لينشئ “النهار”، فإن غسان تويني قد نشأ على الصحافة الغربية، وأخذ منها وعنها، ولعله قد تأثر قليلاً أو كثيراً بكامل مروه الذي جاء بتجربته الغربية ليصدر “الحياة” متقاسماً مع غسان مكاتب “النهار” بعنوان مطعم العجمي. ولعلهما قد نجحا كل من موقعه، في تقديم نموذج جديد للجريدة اليومية في لبنان.

لقد كان غسان تويني معارضاً بالسليقة، لذلك فقد كان يُتعب من يواليه أكثر مما يُتعب من يعارضه (أمين الجميل، مثالاً).. بل لعله لم يعرف الموالاة إلا اضطراراً وحرصاً على “النهار” ورصيدها الممتاز، فهو يدرك أن المعارضة أساس نجاح كل صاحب رأي، والصحافي أساساً.

ولعل هذه الميزة بين ما جعل “النهار” صحيفة أولى، فالصحافي يكون معارضاً أو عليه أن يختار مهنة أخرى، خصوصاً في بلادنا حيث الغلط أو الفساد هو القاعدة والصمت عنهما جريمة بحق الوطن وشعبه.

وفي طليعة أسباب نجاح “نهار” غسان تويني نفسها المعارض.. خصوصاً وأن الموالاة لنظام كالنظام القائم في لبنان بأهله الذين نعرف وتعرفون، هي خيانة لمهنة الصحافة وحق الناس في أن تعرف قبل أن تكون خيانة للقارئ الذي يختار الجريدة التي تجعله يعرف أكثر.

أيها الأصدقاء،

اذكر أن الأستاذ غسان قد اتصل بي، بعد صدور “السفير” بأيام يدعوني إلى الغداء. وأدركت أن نجاح “السفير” منذ عددها الأول يشغل بال الأستاذ الكبير، فرحبت بدعوته، والتقينا في مطعم الاكسبرس.. بادرني بعد تهنئة قصيرة : لماذا نجحت “السفير” ؟!

قلت: أنت أستاذنا، وأنت بحكم خبرتك، أعرف مني..

قال: انه ربع الليرة..

قلت: ولكن في البلد أكثر من عشرين جريدة بربع ليرة، ثمّ أن النهار قد رفعت سعرها إلى نصف ليرة، قبل أيام فقط، إذن، لا بد من أسباب أخرى.

قال: عليّ الاعتراف أنها جريدة مشغولة، ولكنه الربع.. مبروك، ستجعلني مضطراً لان اهتم بـ”النهار” أكثر!

أيها الأصدقاء

كان غسان تويني الصحافي، يصارع دائماً غسان تويني السياسي، وهذا يصارع غسان تويني المثقف، كانت الساسة أدنى مما يطلب، وكان التفرغ للثقافة أصعب مما يطيق، أما الصحافة فكان يتهددها دائماً المستنقع السياسي بسرطانه الطائفي وحمأة المصالح المتضاربة فيه والتي تلتهم مصالح الناس.

واذكر انه، وهو مستشار في القصر الجمهوري،أوائل الثمانينات كان يتصل بي بين الحين والآخر، ليرضي شبقه المهني فيخبرني بعض مباذل شاغل القصر، وأشهر حكاياته كانت ليلة الكونياك.. وصديقنا الدكتور الرئيس ايلي سالم بها خبير.

أيها الأصدقاء،

لقد فرض القدر على أستاذنا غسان تويني أن يعيش مسلسلاً من المآسي امتد ما بين رفيقة عمره الشاعرة الرقيقة ناديا تويني، إلى نجله مكرم الذي مات من غير وداع في حادث سير في فرنسا، فإلى جبران الغالي الذي كانت جريمة اغتياله نكبة وطنية… لكنه صبر وجالد وكابر

محافظاً على مكانته كأستاذ كبير، وكمسؤول خطير عن الرأي العام، الذي شاركه الحزن عاجزاً مثله عن وقف المأساة الوطنية متمثلة بمسلسل الاغتيالات التي حصدت بعض النخبة من أهل السياسة وبعض الذين كانوا على هامشها في لبنان.

وبالتأكيد فإن جريمة اغتيال جبران، الذي كان يراهن عليه كمكمل للرسالة التي حمل رايتها جبران الأول، قد هدمت الكثير من أحلامه. وان ظل يراهن أن “النهار” ستوفر لمن يكمل الرسالة رصيداً ممتازاً لكنه في الوقت نفسه رصيد ثقيل يشكل تحدياً يومياً لمن فرضت عليه الأقدار أن يكون مكمل الرسالة، في ظروف مختلفة جداً، ومع نضوب القدرات والإمكانات وسوق الإعلان والبيع..

وسلوا من كان بذلك خبيراً..

ولكنني، ومن موقع التلميذ – الزميل- الصديق – المنافس أكاد أغبطه على انه أختار موعد رحيله، قبل أن يشهد ضمور الحلم الذي أعطاه عمره وجهده وقلمه المبدع… أما أنا فقد أنهكني الانتظار فاخترت أن أوقف إصدار “السفير” قبل انطفاء الحلم الجميل،مخليا المساحة لجيل جديد من قارئي الأحلام باللوحة الالكترونية.

رحم الله أستاذنا الكبير غسان تويني، ورحم قبله ومعه الزميل الصديق جبران تويني، وأعان الله الصديقة الرقيقة نايلة تويني على مهمتها الصعبة في زمن اليباس وبالتأكيد فإن قلم شقيقتها ميشيل سيكون عوناً لها بإشراقاته اليومية.

وشكراً لجامعة البلمند ورئيسها الصديق ايلي سالم انه أتاح لي هذه الفرصة للمشاركة معكم في تكريم هذا المعلم المؤسس في الصحافة المكتوبة، عشية انتهاء عصرها الذي كان عصر التنوير والثورة وتجديد الفكر من أجل حياة أفضل..

مع التمني بدوام التألق لهذه الجامعة التي كبرت بإدارتها وأساتذتها حتى نافست الأعرق والأغنى والأشهر من الجامعات المتكاثرة في لبنان حتى لكأنه دولة عظمى..

ومع التمني بأن يظل للصحافة في لبنان مثل هذا الدور الذي يستحق التكريم، وأن تستعيد الصحافة العربية في مصر خاصة وفي سائر البلاد العربية الدور التنويري الذي يتوجب عليها أن تقوم به، بعيداً عن أجهزة الرقابة والإملاء والتعليمات التي تقتل الصحافة وقراءها.

تحية لصناع المستقبل الأفضل..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كلمة ألقيت خلال ندوة حول “غسان تويني الحاضر أبداً” أقيمت في جامعة البلمند بتاريخ 23 شباط 2017

Exit mobile version