طلال سلمان

عن عبد الوهاب البياتي.. خارج الشعر!

على غير موعد تلاقينا في “نايت اند داي” بفندق سميراميس القديم في قاهرة جمال عبد الناصر.

كانت صالة الاستقبال الكبرى ندوة مفتوحة لكبار الكتّاب في مصر آنذاك، يتصدرها متى ليَّل الليل الشاعر كامل الشناوي يتحلق من حوله المعجبون من فنانين وقراء وفضوليين، في حين يتجمع “الصعاليك” وأنصاف المعروفين واللاجئون السياسيون في المقهى المجاور الذي لا يقفل أبوابه على الساهرين مهما طال انتظارهم للصباح الموعود.

كنا، نحن الصحافيين المهتمين بالسياسة، طارئين على مثل هذه الجلسات، ومتهمين بأننا نركض وراء التافهين من الحكام وأصحاب الألقاب على حساب الثقافة والمبدعين والذين يتعاملون مع الوجدان وليس مع السلطان.

وكانوا ثلاثة إلى الطاولة: حسين الحلاق ومحمد الحبوبي وعبد الوهاب البياتي… فصاروا بعد انضمامنا إليهم ستة.

دارت الراح، واستعيدت معها الأحاديث عن مشاريع الانقلابات الموعودة في كل من سوريا والعراق. وبرغم توهج الاحتمال في اقتراب موعد التغيير فإن جواً من الحزن العراقي ظل يهيمن على الجلسة.

جاء معجب بالبياتي فحياه وقبّله كثيرا، وسأله أن يوقع له ديوانه الأخير، فقرّبه وطلب له مرطبا، وانهمك في كتابة الإهداء.

مضى المعجب في المجاملة حتى النهاية، فذكر أنه يفضل البياتي على غيره من شعراء جيله، وحتى عمن تقدموه، فهو يراه حزنا عراقيا مصفى، في حين ان الجواهري سياسي أكثر مما يجب، والسياب نداب بكّاء أكثر مما يجب و…

لا إنذار مسبقاً مع الغضب العراقي.. وهكذا وجدنا البياتي يتوقف عن الكتابة، ثم يقف فيرمي المعجب بديوانه الذي كانت صفحته الأولى البيضاء قد فاضت عن آخرها بعبارات الثناء والمديح لهذا “المجهول” الذي حاول اصطياد “لحظة قدرية” مع شاعره الأثير!

وكان علينا، بعد ذلك، أن نمضي ساعة أو أكثر في محاولة تهدئة عبد الوهاب البياتي الذي وجدها فرصة لاعلان رأيه الصريح وبتعابير عراقية “رقيقة” جدا في مجمل شعراء العراق، مثنيا بشعراء مصر، مختتما حلقة الإعدام بمجمل شعراء لبنان وسوريا.

* * *

دائما كانت لقاءاتنا تتم بالمصادفة وحيث لا يمكن التوقع.

ودائما كانت الجلسة تبدأ طيلة الأحاديث، مطعمة ببعض الشعر والكثير من اللوعة، لتنتهي في جو من الاقتتال الذاتي ومن الاشتباك العنيف مع الآخرين، حاضرين وغائبين.

قال صديق: البياتي ينفق حبه كله في شعره، فلا يتبقى لديه غير المرارة والضيق بالآخرين.

وقال صديق آخر: انه عيب الكبار دائما، نادرا ما يقبل أحدهم غيره!

قال صديق ثالث: انها الخيبات والمرارات والفواجع العراقية!

على ان الكل كانوا ينتهون الى التسليم بالمكانة الرفيعة للبياتي شاعرا، وينسبون حدته الى غرابة الطبع العراقي عموما وهو طبع تختلط فيه فاجعة التاريخ بمأساة الجغرافيا ببؤس الأحوال السياسية مع قسوة استثنائية في المناخ!

واتفقنا على ان نفصل دائما بين الشاعر بشعره و”الشخص” بمزاجه وانقلاباته الحادة، مستشهدين بأمثلة لا تحصى من الوقائع عن آخرين من الشعراء أكثر فطنة من البياتي لأنهم “يلعبونها” حسب الأصول: فالعلاقات العامة تحجب الرأي الخاص، والتسويق يطغى على موجبات الصراحة المحرجة.

في الاحتفال بالجواهري التقينا. وبقدر ما كانت كلمة البياتي “رسمية” باردة، فإن دموعه كانت حرى. وقال قائلنا: من حقه أن يُكرَّم، هو الآخر.

أما في آخر لقاء معه، على هامش الجنادرية في الرياض، فكان عبد الوهاب البياتي قد استوطن اليأس والقرف والمرض، وكان كمن يقف على المحطة في انتظار الموت… على كرسي هزاز في دمشق التي أحبها فأحبته واستبقته فيها.

نشرت في “السفير” في 6 آب 1999

Exit mobile version