ما بين باريس، حيث التقينا عبد الرحمن منيف -أول مرة- في مقهى ومعنا صديق ثالث، إلى “البيت” في ضاحية المزة الجديدة بدمشق، فإلى مكاتب “السفير” في بيروت حيث كنا ننتظره مشوقين إلى حواره الفكري الممتع، تنامت الصداقة وتوطدت مع الأديب الكبير الهارب من “جوازه” السعودي والإغراءات الملكية المذهبة، وامتدت حتى حانت ساعة رحيله في “المنفى” الذي اختار..
في المرة الأولى تركز الحديث حول خماسيته “مدن الملح” التي لم يكتب أجمل وأعمق منها عن تلك البلاد التي ما تزال مجهولة، لا نعرف منها غير أسرتها المالكة التي أخذت الحكم بالسيف والقرآن والنفوذ البريطاني الذي سرعان ما غالبه فغلبه النفوذ الأميركي مع اكتشاف الثروة النفطية الخرافية في تلك الصحراء التي تمتد بلا حدود، وان ظلت للحجاز بمكة المكرمة والمدينة المنورة شرف نزول الرسالة على النبي العربي محمد بن عبدالله فيها، ومنها انطلقت الدعوة إلى الدين الحنيف إلى العالم.
كان عبد الرحمن منيف قد تقبل وضع “المنفي” فعاشه في قلب الوجع، وان كان قد حاول رد الأذى بأن ينتج لوحات خالدة تروي قصة تلك الأرض وأهلها وما دار فيها من حروب ومؤامرات وفتن نظمتها أجهزة المخابرات الغربية المصطرعة على النفوذ والثروة الخرافية التي تختزنها الرمال الذهبية المتروكة للريح منذ فجر التاريخ.
وهكذا فلقد قرر أن يباشر كتابة “مدن الملح”، بعدما بحث واستقصى وجمع كل ما استطاع الحصول عليه من وثائق وسرديات شفهية وروايات مدققة عن تطورات الصراع على السلطة بين آل سعود الوهابيين وآل الرشيد المنافسين، والأدوار التي لعبها الدعاة والجنرالات ورجال المخابرات والذهب ثم الذهب بين الأطراف المقتتلين بالسيوف اللامعة والبنادق العتيقة للهيمنة على أغلى ارض بالثروة وأفقرها بالسكان.
اتفقنا، مبدئيا، على مباشرة النشر بعد شهرين، حيث يكون عبد الرحمن منيف قد أنجز الجزء الأول.. وهو لم يكن، حينذاك يعرف كم جزءا ستكون هذه الرواية التي تحكي التاريخ المجهول لتلك الأرض، بعيداً عن قداستها، وفي قلب السياسات الشريرة التي أخذت الثروة من أهلها لتقسمها بين الحاكم بالسيف والمتحكم بالقرار السياسي والاقتصادي وكل ما يتصل بالمستقبل وإستراتيجية الهيمنة.
بعد شهرين عدنا فالتقينا لنناقش أمر النشر. قال عبد الرحمن منيف: سأعيد إليك الدفعة الأولى لأنني لم أنجز الجزء الأول، بعد.. وأظنني لن ابدأ بالنشر إلا بعد وقت طويل… فلقد توفر لي من الوثائق والروايات والشهادات الشخصية ما يجعلني افترض أن العمل الروائي سيتكون من أجزاء عدة، لا اعرف هل تكون ثلاثية أو رباعية أو حتى خماسية، فعذراً للإخلال بالوعد.
كان التهذيب الفائق سجية أصيلة في هذا “البدوي” الذي عاش معظم عمره في “المنفى”، رافضاً عروض المساومة على حقه في وطنه، وعلى حرية قلمه وفكره وإبداعه.
وستمضي سنتان قبل أن يستقر عبد الرحمن منيف في بلد زوجته السيدة سعاد، متخذاً سكناً في المزة، غير بعيد عن حسين العودات وياسين الشكر ونفر آخر من أصحاب القلم، شعراً ونثراً.
لم أزره مرة إلا ووجدته يقرأ أو يكتب نصاً جديداً. كان منهماً في القراءة، يختار كتبه بعناية، جامعاً بين الرواية والنقد، والقراءة لآخرين ممن يحترم نتاجهم. ولقد اشترك مع بعض أصدقائه ممن يقدر ابداعهم في كتابة بعض الروايات.
أما خلال زياراته الدورية لبيروت بعنوان “السفير” ، للاطمئنان إلى نجليه الذين انتسبا إلى الجامعة الأميركية، فكانت اللقاءات تتحول إلى ندوة فكرية- ثقافية- سياسية، نعرض فيها لأحوال الأمة متجرعين آلام التدهور الذي أوصل إلى الضياع والحروب الأهلية.
ولقد ساومته السلطات السعودية مراراً، وقدمت إليه عروضاً مذهبة وإغراءات غير محدودة، فاشترط بداية، وقبل أي حديث، أعادة قيده بعدما شطب اسمه، وتسليمه جواز سفره، وفترة من التفكير ليقرر، واثقاً من أن العرض مساومة لشراء موقفه المستقل والإساءة إلى رسالته التي أعطاها عمره.
رحم الله هذا الأديب العربي الكبير الذي عاش لقضيته، راضيا بالمنفى أو “المهجر” بديلاً من “المقهر” داخل وطنه الذي يلغي حكم الأسرة المذهبة والمصفحة بالمطاوعة والعسس كرامة الإنسان قبل حريته، وإبداعه الممتاز بكسر إرادته ومن ثم قلمه.
لقد ترك عبد الرحمن منيف مكتبة من النتاج المميز عنوان إبداعه فيها خماسية “مدن الملح” التي يمكن اعتبارها فتحاً جديداً في عالم الرواية وكشفاً للمخبوء في بلاد الذهب والسيف، حيث يهان الدين بالتعصب والجهل واحتقار كرامة الإنسان بتجريده من رأيه وموقفه ليكون “خويان” أو رعية بلا حقوق لان “الأسرة الحاكمة” تملك الأرض ومن وما عليها وما في باطنها.
الأرض المقدسة التي أنزلت فيها رسالة الإسلام على النبي العربي تحرم استهلال القرآن الكريم: اقرأ.. فكيف لا ينفى عبد الرحمن منيف نفسه راضياً مرضياً؟