طلال سلمان

عن عاصفة اسمها: طلال سلمان

تضعني الكتابة عن طلال سلمان امام امتحان صعب لطالما حاذرت أن أقع في مطباته. لا بسبب شح في العاطفة والود، بل خشية من أن يحول فائض العاطفة بيني وبين رؤية “موضوعية” لاحد أكثر الاشخاص اتصالاً بالقلب والنفس من جهة، وأحد أكثر القامات الاعلامية تعبيراً عن وجه لبنان النقي والنضر والمنتصر على آلامه وعثراته، من جهة أخرى. صحيح أن السنوات القليلة التي تفصل بين عمرينا لا تسمح لي بالتحدث عن المراحل التي سبقت تأسيس “السفير”، حيث كان على طلال الطفل والمراهق أن يقلب الفقر على وجوهه وأن يتنقل مع أبيه الدركي في مختلف اصقاع لبنان ومخافره النائية، وكان على طلال الشاب أن ينقل قلمه النضر والسيال بين صفحات “الصياد” و”الاحد” وغيرهما من المنابر، ولكن الصحيح أيضاَ أنني منذ اربعين عاماً لا اكاد اعرف صباحاً خالياً من افتتاحيات طلال، او شمساً لم يمهرها بتوقيع قلمه المضيء، أو امرأة يانعة لم يحث جمالها على التفتح، او حرباً لم تصبه شظاياها، او شهيداً لم تضفره كلماته بإكليل من التنهدات.
لم تؤرخ “السفير” بهذا المعنى لحقبة سياسية تغطي الربع الأخير من القرن الفائت وبداية القرن الذي يليه فسحب، بل أرخت لمصائر وحيوات وأحلام فردية وجماعية، ولرهانات وطن كامل على تجيد وعوده مع المستقبل. ولم تكن

يا صديقي طلال
أنت قبل ثلاثة وأربعين عاماً لم تؤسس جريدة تُضاف إلى جرائدنا اليومية فحسب، بل اسست طرقاً للعيش ومسارات للزمن لم نعد نعرف في غيابها كيف نعثر على اشارات تعصم ارواحنا من الضلال وأجسادنا من الاهتراء، وعلى تقويم يحدد لأعمارنا ما فاتها من شروق الشمس وقهوة الصباح وتزلج العيون على صفحات التلهف اليومي. فحين هبطنا من جرودنا العالية لنقرع بالحنين والغضب العارم والقبضات المجردة ابواب بيروت الصماء، وحين صرخ محمد العبدالله باسمنا جميعاً في وجه المدينة المنفى واسمنت ابراجها الشاهق: “من دمي هذا الذي يعلو مداميكاً وباطونا مسلح / من نزيف الساعد الملحاح والجرح المملح”، وصولاً إلى هتافه الجارح “لست امي / انما انتِ خياناتي لأمي / وخضوعي للذي مزق امي واشتراني / لملمي ثدييك / ثدياكِ زجاجٌ وشفاهي سئمت من حلمة الكوتشوك / من رضع القناني”، انت عبر “السفير” من ربت على مخاوفنا لتهدأ، وعلى وهن اقلامنا لتجيش بالقصائد. وأنت من قلص المسافة بين ما خلفناه من حذاءات امهاتنا على اسرة الفقد وعشيات القرى، وبين شرودنا الكسيح تحت سماوات الفولاذ التي تصبب من فجواتها عرق براءاتنا القديم. وأنت من شذب سخطنا من رعونته وتمردنا من اشواك الفظاظة، وصالحنا مع انعكاس وجوهنا الجديدة مع مرايا الحداثة الوافدة.
لم تؤرخ “السفير” بهذا المعنى لحقبة سياسية تجاوزت العقود الاربعة من الزمن فحسب، بل أرخت لمصائر وحيوات وعثرات وأحلام تسنم سدتها غير جيل من الأجيال، كما لرهانات امة بأسرها على تجديد وعودها مع المستقبل.
ولم تكن الجريدة. مجرد ضربة نرد طائشة رميتها ذات يوم على رقعة طموحك الشخصي، بل كانت تتويجاً بالحبر السائل لذلك الغليان الذي ظل يعتمل عقوداً في صدر الوطن والأمة، ومنصة مفتوحة للآمال المطعونة بحراب الاقتتال الاهلي وللصباحات المعقودة على حلم التغيير المجهض. فعلى بُعدِ سبع سنوات لا أكثر من هزيمة حزيران، وعلى مرمى حجر من ايلول الاسود، وتظاهرات الطلاب الصاخبة، ودخول المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، وتأسيس الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط، كان لا بد من أن يتلقف شخص ما حاجة المرحلة إلى منبر قومي، يساري النبرة والتطلع، يجمع اليه شتات النخب السياسية والفكرية والثقافية العربية وينقل صوتها من الشارع إلى النص المكتوب، وكنت انت الاجدر برفع الشعلة عالياً فوق قرنة البلاد السوداء. على أن “السفير” لم تكن لتبلغ الشأن الذي بلغته، لو لم تخترق السطوح السياسية والدعوية للواقعين اللبناني والعربي، ولو لم تدرك انت ببصيرتك النافذة أن المنبر الذي اسسته، مع ثلة من رفاق الطليعيين، ينبغي أن يتحول إلى مختبر حقيقي للأفكار المتصارعة والثقافة المستنيرة، ولكل المخاضات الباحثة عن ولادتها في كنف التنوع والمغايرة والهواء النقي. هكذا بدت الجريدة رجعاً ناصع الارتدادات للزمن العربي الجميل، والمتصل بصوت فيروز وألق المسرح الرحباني، ومهرجانات بعلبك، وأغنيات الشيخ امام وأحمد فؤاد نجم، وقصائد ادونيس وطلال حيدر ونزار قباني ومحمود درويش، لا مجرد منبر عابر، للرطانة الأهلية وتأتأة السياسيين الجوفاء. أما نحن الشعراء الذي خرجوا من رحم تلك المرحلة فلم يكن من قبيل المصادفة أن نجد في الجريدة الوليدة المنبر والملجأ والملاذ.
ذلك أن معظم ما كتبه جيلنا والجيل اللاحق من شعر كان، وما يزال حتى اليوم، ينشر في الجريدة شئت أن تكرس صفحتها الثقافية وملحقها الاسبوعي لكافة الاصوات التي ترهصُ أقلامها ومخيلات كتّابها بمعنى لبنان الحقيقي، والمتعالي عن حضيض الطوائف والمذاهب والغرائز المفلتةِ من عقالها.
لم استطرد في الكتابة عن “السفير” بهدف تجنب الكتابة عنك. بل لأنني اردت أن اسلك الممر الاجباري الذي لا بد من ولوجه للوقوف على سر تلك العاصفة التي تحمل اسماً حركياً مذكراً هو: طلال سلمان. لا اقول العاصفة بالمعنى المجازي للقول، بل بالمعنى الحقيقي الذي يعطي لبعض الرجال دون غيرهم طاقة الاندفاع بلا هوادة نحو افقٍ غير محدود من الجموح والتوثب والصراع مع تنين الخيبة والجهالة والقنوط. ذلك أن المرء ليحار امام قدرة جسدك النحيل، بملامحه الزراعية الملفوحة بشمس البقاع وعينيه المسددتين كعيني الصقر إلى فرائس العالم وجمالاته، على الوقوف ثابتاً ومشدوداً كالقوس فوق ارض شحيحة الصلابة، وبلاد لا تكف عن ارتجال هزائمها كما ترتجل الارانب من ادراج السحرة والمشعوذين. فمع أي عنقاء تحالفت لكي تنجو بجسدك من رصاص الغدر وبجريدتك التي مُنعت غير مرة من الصدور، وبإرادتك التي لم تضعف امام مكيدة او شح مادي؟
لعل السر كامن في موهبتك العالية وذكائك المتوقد وطموحك الذي لا يعرف الحدود. وحيث لا مخيلة غنية بلا مسرح غني للطفولة فقد عرفت كيف تشحذ طفولتك على سكين المكابدة الصلبة وشفرة الفقر النبيل. انها الطفولة المنقسمة بين حجر الركبتين الصلد، وبين غبار الطلع البقاعي الذي يلقّح الرأس ببذور اللغة، وورود التخيل، وأمواج الاستعارات التي لا تهدأ. ومن يقرأ افتتاحياتك المتعاقبة في “السفير” لا بد وان يشعر بتلك النداوة المفرطة في تألقها، حيث يتم حقن السياسة بأمصال الشعر، ويرتفع الكلام عن راهنيته ليعانق الابدي والدائم وغير المحدود.
ومن يقرأ “هوامشك” الثقافية في الملحق الاسبوعي سيعثر على الجوهر “السلماني” الحقيقي، وعلى الناقد والروائي والشاعر الذي يزيح السياسي إلى الخلف ليتصادى مع المجاز في آباره العميقة. وعلى لسان “نسمة” الذي يقبع في أخمص زاويتك سيتاح لك عاشقاً أن ترتفع بالأنوثة عن منسوبها الطبيعي، وأن تثير غيرة الشعراء بما يمتلكه قلمك من عُـدّة اللغة وسطوة الاغواء العاطفي.
لطالما كانت صورة الفارس عند العرب متصلة بالعشق إلى حد التماهي. فنحن وفق أحد الشعراء “قوم تذيبنا النجل / على اننا نذيب الحديدا”. ونحن، وفق عنترة، نتلمس فوق شفرات السيوف لمعان ثغور النساء اللواتي نحبهن. ذلك لأن شهوة الحياة توقفنا دائماً على الشفير بين بسالة الذود عن الكرامة وبين الانحلال الكلي في المجرى العذب لأنوثة العالم وجمالاته الوارفة. وما انت الكاتب والشاعر والعاشق للمرأة والمفتون بالطرب والتراث الشعبي، الا التجسيد الحي لكل ما تقدم.
اخيراً يا طلال اتذكر قول صديقنا المشترك محمود درويش وقد نجا بروحه من هول الحروب “شكراً للجريدة لم تقل إني سقطت هناك سهواً”. لكن “السفير” خصته عند رحيله بأفضل ما يمكن أن يحظى به شاعر من تكريم. أما انا فقد حُرمت من هذه الحظوة حين سبقتني الجريدة إلى الاحتجاب بما يجعل من رثائي لها رثاء لنفسي ولأجمل ما خصتني به الحياة من هبات اللغة وعائدات الاحلام.

كلمة القيت في الاحتفال التكريم للاستاذ طلال سلمان الذي اقامه محترف “زوايا”

Exit mobile version