طلال سلمان

عن شرعية عروبة في عراق »الانتقالي«

أما وأن »دولتنا« في إجازة قصيرة هي إلى »الهدنة« بين حربين أقرب منها إلى استراحة المحاربين بعد انتهاء المواجهات بالنصر أو بالمصالحة.
أما وأن الكهرباء في إجازة طويلة يحددها توفر المال من مصادر طبيعية، بعدما استنفد ما وفرته الخزينة للتجهيز كبناء المحطات ومد الشبكة (بكل ما رافقها من صفقات ومن سمسرات ما تزال تدر ذهباً على أبطالها حتى اليوم)..
أما وأن الدين العام قد بات »مقيماً« إقامة دائمة، فلم يعد زائراً طارئاً أو عابر سبيل، بل هو »توطن« فينا وفي أبنائنا من بعدنا، تتوالد »ذريته« المباركة وتتكاثر على مدار الساعة، في انتظار إصلاحٍ من الصعب أن تكتب له الحياة..
أما وأن »الكسارات« تطحن القوانين، و»الفانات« تلتهم ما تبقى من لبنان الأخضر، في الذهاب (قانوناً) وفي الإياب بالقانون.
أما وأن كل ما في لبنان »مريح« و»عال العال«، فلا بأس من التفاتة، بالاهتمام أو (بالإشفاق!!) نحو العراق بمشكلاته الثقيلة سواء منها السابقة على الاحتلال الأميركي، والتي كانت بين »مبرراته«، أو تلك الناجمة عن هذا الاحتلال الذي يكاد يبرّر نفسه، ويجد من بين العراقيين وسائر العرب، من يبرره بل ويروّج له باعتباره »أقصر الطرق إلى الديموقراطية« وإلى »الحداثة« وإلى التخلص من العصبيات الجاهلية كالقومية العربية، أو الهوية العربية ذاتها وكأنها من »إبداع« صدام حسين أو بعض إرثه المسموم في أرض الرافدين.
والواقع أن النقاش حول العراق اليوم يكاد أن يكون نقاشاً داخلياً في كل قطر عربي، وبمعنى ما يكاد يكون النقاش »القومي« الوحيد المفتوح على مصراعيه حول الوضع القائم عموماً، في الأقطار جميعاً كما في جامعة الدول العربية التي كما المرآة تعكس فداحة الخطر وفداحة العجز عن مواجهته في آن معاً.
.. وهو »نقاش قومي« برغم التحفظ الذي يرفع الكثيرون أصواتهم به الآن، »لتبرئة« العراق من تهمة »العروبة« وبالتالي لتبرير الدعوة إلى خروجه منها وعليها، ومن ثم قطع الصلة بالجامعة العربية التي تتردد في الاعتراف بشرعية »مجلس الحكم الانتقالي« فيه.
يبدو النقاش، للوهلة الأولى، محكوماً بثنائية المفاضلة بين النظام الدكتاتوري المخلوع وبين الاحتلال الأميركي المعزز بالمرتزقة الأممية التي يستعين بها لتموت بدلاً من جنوده الذين أنجزوا مهمة »التحرير« ومن حقهم العودة إلى أسرهم خلف بحر الظلمات.
ثم إن النقاش محكوم بثنائية أخرى: رأي الأنظمة العربية وموقفها، ورأي الشارع العربي وموقفه.. وبين الرأيين افتراق لا يحد منه الحدث الخطير الطارئ والمتمثل بالاحتلال الأميركي للعراق.
وهو نقاش يغيّب، في الحالتين، أساس الموضوع.
لقد بلغ من بشاعة نظام صدام حسين أنه منح »الاحتلال« نقطة لصالحه في المقارنة، تتجاوز الموقف المبدئي من الاحتلال عموماً.
ويجيء النقاش العلني المتاح حول »مشروع النظام الجديد« الذي يحضّره الاحتلال الأميركي بواجهات عراقية ليست كلها مدانة أو مرفوضة أو »محروقة« شعبياً، وبمؤسساته المبتدعة أو المستولدة على عجل، ومشروع دستوره العتيد، فرصة طيبة لكل مواطن عربي لكي ينظر مجدداً إلى نظامه في عينيه.
إنه »وضع نموذجي« لبلد تحت الاحتلال… فماذا عن الأنظمة الأخرى؟!
أليس طبيعياً أن يستذكر أي مواطن عربي نظامه وهو يحاول الحكم على ما يجري أو ما يدبر في العراق وله، حتى مع تحفظه الأكيد على أن يكون »الاحتلال« هو »صائغ« النظام العراقي الجديد… وهو تحفظ لا يمنع من »التسليم الضمني« بهذا الأمر الواقع، طالما أن العراقيين لم يهبوا لمقاومته بالبسالة التي عُرفت عنهم، والتي جعلت من »ثورة العشرين« نموذجاً يحتذى في مواجهة الاحتلال الأجنبي؟!
* * *
ملحوظة: لنستذكر أن معظم الذين حكموا العراق في »العهد الاستقلالي«، الملكي بداية، ثم الجمهوري، قد انتهوا مقتولين (الملك غازي) أو مسحولين (الملك فيصل الثاني، الأمير عبد الإله، نوري السعيد وسائر الرهط) أو بالاغتيال البارد (عبد الكريم قاسم وصحبه)، أو بالقتل البطيء (أحمد حسن البكر)… وسعيد الحظ من اختار الانتحار كعبد المحسن السعدون الذي أزيل تمثاله (لبيع معدنه) ثم أعيد مؤخراً، أو أودى به حادث طارئ (ولو كان مدبراً) كعبد السلام عارف الذي سقطت به طائرته إلخ… في انتظار أن نعرف مصير صدام حسين النهائي..
إن التقدم إلى حكم العراق يكاد يكون عملية انتحارية، هذا في الظروف الطبيعية فكيف في ظروف استثنائية كالتي تعيشها أرض الرافدين.
* * *
إن العرب، دولا وجامعة لهذه الدول (؟) ومواطنين، لا يملكون أجوبة محددة عن الأسئلة التي طرحها ويطرحها الاحتلال الأميركي للعراق.
وبرغم مرور خمسة شهور على الحرب، ومن ثم الاحتلال، فإن هؤلاء العرب، الذين لم يكونوا مستعدين لمواجهة الاحتلال نفسه، لم يصلوا إلى تحديد سياسة ما وردود ما على الأسئلة الصعبة التي تطرحها ممارساته ومن ثم »شعاراته«، ومن ثم التداعيات المنطقية، داخل العراق أساسا، لهذا الذهول العربي، أو الضياع أو التردد أو الانقسام بين من يعترف بمجلس الحكم الانتقالي ويقر »بشرعيته«، وبين من يقبل استقبال أعضائه بصفتهم الشخصية من دون الاعتراف بمجلسهم، ومن هو مستعد للتعامل مع المجلس بغير إقرارٍ به كمؤسسة حكم عراقية..
في المقابل، ينتزع الاحتلال الأميركي لمجلس الحكم »اعترافا« بوجوده، من طرف مجلس الأمن الدولي، بمعزل عن رأي العرب، دولا وجامعة وشعوبا..
وفي المقابل، تتوالى المشاهد الكاريكاتورية والمواقف الكيدية..
في مشهد نرى جنرال الاحتلال الأميركي، بثيابه العسكرية ونجومه وحرسه، يجمع مشايخ القبائل والعشائر ووجهاء النواحي وبعض رجال الدين الممثلين لأكثريات أو لأقليات، ليعلّمهم أصول الديموقراطية واعتراف الكل بالكل..
وفي مشهد آخر نقرأ ونسمع شهادات صادرة عن كتّاب وسياسيين ووجهاء عراقيين تنكر على العراق عروبته وتطالب بالخروج من الجامعة العربية..
في المقابل تخلو بيانات مجلس الحكم الانتقالي وتصريحات أقطابه من أي ذكر لعروبة العراق، أو توكيد لها، حتى عبر البحث بالفدرالية كنظام لحكمه المستقبلي.
وفي ظروف طبيعية كان يمكن لنصف أعضاء هذا المجلس، الذي عيّنه الحاكم المدني للاحتلال العسكري، أو ربما أكثر من النصف، أن يكونوا نوابا منتخبين وأعضاء في حكومة شرعية طبيعية في العراق.
فإذا كان صحيحا أن بعض هؤلاء »مشبوه« أو »متهم في وطنيته« أو »أتى على قطار أميركي لكي يبني الحرية والديموقراطية«، فالصحيح أيضا أن بينهم أول المنفيين، وكثرة من المناضلين في الداخل والخارج، وعددا من أصحاب المكانة الاجتماعية والعلمية والتاريخ السياسي..
على أن الصحيح أيضا أن العراق، من قبل الاحتلال، كان يعاني فراغا سياسيا قاتلا: حاكمه طاغية أباد في البداية مناضلي حزبه (البعث العربي الاشتراكي) وألحق بهم مناضلي الأحزاب الأخرى (التي كان أنهكها دعمها لطغاة سابقين)، قبض على البلاد بالمخابرات وزعماء العشائر والقتلة المحترفين والمافيات التي شكلها وقادها أقاربه الموثوقون.
أما النخب العراقية من أهل السياسة والعلم والثقافة والفقه، فقد توزعوا شهداء ومنفيين مشردين، للنجاة من بطش النظام، أو أنهم قبعوا في الظل يتحاشون ان يؤكدوا حضورهم حتى لا يغيّبهم ذلك الذي لا يطيق الى جانبه صاحب رأي..
وها هو الفراغ السياسي المخيف يعبر عن نفسه، حيث لا مؤسسات، لا احزاب، لا نقابات، لا مرجعيات (حتى المرجعيات الدينية او من تبقى منها تعودت الصمت لان الرأي الفتوى الاجتهاد غالباً ما يكون قاتلا او يؤدي الى موت عبثي)..
ان احزاب العراق، كما احزاب الوطن العربي جميعاً، قد شاخت او انكهتها السلطة ففقدت شعاراتها البريق، وفقدت قياداتها (الطارئة او المزمنة) شرعيتها، ومن تبقى من هيئات ذوّبها القهر او الابعاد او النفي الاختياري..
من بقي؟!
بقيت الإثنيات والأعراق، الطوائف، المذاهب، العشائر، القبائل، الوجاهات المحلية، والذين اعادهم الاحتلال من المنافي حيث كان قد رعى العديد منهم وجاء بهم كأدلاء ومرشدين الى »مكامن الخطر« و»المقاومين المحتملين«… وما اسهل ان يتهم اي معترض بأنه من »عملاء النظام المخلوع«!
اين موقع مجلس الحكم الانتقالي وسط هذا الركام؟!
انه يمثل هذه العناصر الاولى، او المواد الاولية، لمكونات الشعب العراقي، بكثير او قليل من النجاح… وحتى »المناضل الحزبي« القديم أدخل من باب »طائفته« لا من باب »لونه« السياسي وشعاراته التي بهتت الوان معظمها وفقدت بريقها القديم.
***
يلوم العراقيون »العرب« على انهم لا يهتمون لشأنهم… لم يهتموا، من قبل، لمساعدتهم ضد الطاغية، ولم يحركوا ساكناً لمنع الاحتلال، بل ان بعضهم قد ساعده بالمال والرجال والتسهيلات، ثم انهم يمتنعون الآن عن الاعتراف بمجلس الحكم الانتقالي فيه.
ويأخذ الغلط الكثير من العراقيين إلى الخروج من عروبتهم وعليها…
ويلوم الفلسطينيون »العرب« ويأخذون عليهم تقصيرهم الفاضح في نجدتهم وهم يواجهون

بدمائهم (وهي آخر ما تبقى لهم) الاحتلال الاسرائيلي.
ولقد عرفنا في لبنان مثل هذه المرارة من قبل، وما زلنا نعاني من آثارها حتى اليوم!
ويلوم المصريون »العرب« على انهم السبب في خروج السادات عليهم والذهاب الى اسرائيل والصلح المنفرد معها.
أما القذافي فيأخذ ليبيا الى افريقيا، موجهاً الى العروبة تهمة »العنصرية«، ويلوم الانظمة العربية على تخليها عنه في مواجهة الحصار الاميركي الذي دفع ثمنه كثيراً على امتداد السنوات العشرين الاخيرة، ويدفع الآن نقداً فاتورته الاخيرة (؟) من دون ان يحظى بالعفو الشامل!
اما السعودية فكانت قد جربت، ومنذ زمن بعيد ان تهرب من العروبة (الثورية) الى الاسلام المحافظ والذي كان موضع الرعاية الاميركية، وها هي الآن تحاول عبثاً تبرئة الذات من النظام الذي افترضته حامياً من العروبة فإذا بالعروبة ارحم من الارهاب الاميركي الذي يحاسبها على احتلالها؟!
ماذا بوسع »الساحر« عمرو موسى ان يفعل في مواجهة هذه المعضلات المعقدة؟
أليس هو »الابن الشرعي« لهذا النظام العربي العاجز عن نجدة بعضه البعض وتبرير وجوده ونقص شرعيته الشعبية التي تمنعه من التوجه الى الشعب والاستقواء به على الاحتلال، والاستنجاد بمؤسساته الديموقراطية للمواجهة والمقاومة والانتصار، داخل كل قطر، قبل العراق، ثم في العراق؟!
ألم منظره يثير الإشفاق في »المنتدى الاقتصادي الاستثنائي« الذي عقد تحت الراية الأميركية في الأردن، عند الحد المشترك مع إسرائيل، عندما جاء بول بريمر، الحاكم باسم الاحتلال الأميركي، ليمثل العراق، وكأنه منتصر على العرب بمجموعهم، والذي يستطيع الادعاء بأنه »يمثل« منهم أكثر مما يمثل عمرو موسى وجامعته التي تعاني الإملاق وافتقاد »الشرعية« التي تجعلها مصدراً للقرار؟!
* * *
مع ذلك كله، أو بسبب من هذا كله، فلا بد من »صمود« العرب في العراق ومع العراق وإلى جانب العراق.
إن التسليم بالخروج من العراق، أو التخلي عنه وتركه لمحتله الأميركي، ليس مجرد تنصل من المسؤولية القومية، بل هو تنصل من المسؤولية الوطنية داخل كل قطر عربي، أيضاً.
ليؤكد العرب عروبتهم في أقطارهم فتتأكد بهم عروبة العراق.
أما التخلي عن عروبة العراق، بأي ذريعة، فهو تنصل من العروبة حيثما وجدت.
والعراق، كما فلسطين، هو الامتحان الأخطر للعروبة في كل أرض عربية.

Exit mobile version