طلال سلمان

عن زيارة رئيس ومنغصاتها

المشهد ناطق بدلالاته، لا تحتاج وقائعه إلى شرح أو تفسير:
رئيس الجمهورية يتوجه إلى جنوب بلاده، في زيارة تفقدية عادية، يصحبه قائد الجيش وبعض أركانه. في الناقورة، نقطة تقاطع الحدود مع الأرض الفلسطينية المحتلة، يستقبله قائد قوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل).
هذه القوات التي تستظل علم الأمم المتحدة أوفدت تنفيذاً لأكثر من قرار اتخذه مجلس الأمن، ودائماً في أعقاب حروب إسرائيلية ضد لبنان… ومهمتها أن «تراقب» خط الحدود، وأن «تشهد» على من يخترقها، ثم ترفع التقارير، دون أي تدخل، إلى مرجعها الأممي العالي.. ولبنان سجله أبيض، ولله الحمد، فهو لم يفكّر ولم يقرّر، مرة، أن يخرق الحدود الأخرى التي يتولى حراستها والسهر على أمنها العالم أجمع!
هذا كله مفهوم ومعروف… أي أنها مجرد شاهد، ليس بين مهامها أن تتدخل، أو أن تواجه ـ مثلاً ـ تقدم قوات معادية في الأرض اللبنانية، وعذرها أنها ليست قوة مقاتلة، وفي كل حال، فهي لا تملك من السلاح والأعتدة ما يمكنها من مواجهة «أحد أقوى خمسة جيوش في العالم»، على ما تقول إسرائيل. ثم إن إسرائيل ليست، في نظرها أو في مهمتها، عدواً.
ربما لهذا القصور، يستبيح الطيران الحربي الإسرائيلي، الأجواء اللبنانية من أدناها الفلسطيني إلى أقصاها السوري، وبالعكس، يومياً، فتملأ الأفق طائرات التجسس (أم. كا) والطائرات الحربية التي تخرق جدار الصوت كلما أراد الطيار أن يتسلى بترويع هؤلاء اللبنانيين العنيدين الذين تجرّأوا فواجهوه بمقاومتهم الباسلة على امتداد سنوات احتلاله منذ آذار 1978، ثم اخترقوا المستحيل فأجبروه على الانسحاب مهرولاً من أرضهم في أيار 2000، ثم ارتكبوا ما هو أفظع إذ هزموا حربه على هذا الوطن الصغير بصمودهم الأسطوري في مواجهة آلته الحربية الهائلة بالقرار الأميركي في تموز ـ آب 2006 حتى إجباره على وقف النار.
أمس، كان على رئيس الجمهورية وقائد الجيش وصحبهما، وكذلك على قيادة «اليونيفيل» المصفحة بقرارات مجلس الأمن، أن يتحمّلوا الظل الثقيل للطيران الحربي الإسرائيلي، وغاراته الوهمية واختراقه جدار الصوت للترويع، تدليلاً على… رغبته المؤكدة بالسلام، والتزامه القرارات الدولية، وانصياعه لمنطوق المبادرة العربية، وتسليمه بحق الرئيس الأميركي في فرض التسوية عبر انسحاب القوات الإسرائيلية من كل الأرض العربية المحتلة!
لم يفاجأ رئيس الجمهورية ومن معه بهذه الغارات الوهمية، ولا قوات الطوارئ الدولية فوجئت، ولا مجلس الأمن الذي أوفدها، ولا البلاد التي لبّت النداء الأممي فأرسلت جنودها كي تساعد لبنان (بالقرار السياسي والخدمة الاجتماعية، والتعاطف الإنساني مع أهل الجنوب)…
كان الرئيس يعرف أن الطيران الحربي الإسرائيلي لن يقصف موكبه، لكن تجرّع الإحساس بالضعف والعجز عن المواجهة مؤلم.
وكان قائد الجيش يعرف أن هذا الخرق «سياسي»، أساساً، لكنه كان يتمنى لو استطاع حماية أرضه وشرفه العسكري، بإسقاط هذه الطائرات أو بإقامة سور من نار يحمي سماءنا… لكن العين بصيرة واليد قصيرة، وكل ما نملك بعض المدافع الرشاشة المضادة التي تتهاوى طلقاتها عجزاً عن بلوغ مدى الطائرات الأسرع من الصوت والحاملة بعض أسلحة الدمار الشامل.
أما القائدان اللذان يتبادلان، الآن، الإمرة على قوات الطوارئ الدولية، الإيطالي العائد إلى بلاده، والإسباني الآتي لتسلم المهمة، فقد التزما حدود واجبهما كما نص عليه قرار مجلس الأمن الدولي: سجل كل منهما في دفتره مسودة تقرير عن الواقعة… «أنه في الساعة كذا والدقيقة كذا والثانية كذا (للدقة) حلقت فوق رؤوسنا طائرات حربية إسرائيلية فأحنينا هاماتنا حتى لا تصطدم بها التشكيلة المقاتلة، فلم نصب بأذى، في حين عادت الطائرات سالمة إلى قواعدها… وكل ما خلفته حبال من الدخان الأبيض زيّنت أطراف السماء اللبنانية الزرقاء».
لا نظن أن الوقت قد أسعف رئيس الجمهورية كي يزور، مرة أخرى، الموقع الذي بدأ منه خدمته العسكرية في البياضة، قبل ثلاثين سنة ونيف..
مع ذلك فقد قام بالواجب: وضع إكليلاً من الزهور على النصب التذكاري للشهداء من الجنود الأمميين الذين جاءوا إلى لبنان لمساعدته، فاستقبلهم بالترحاب وعاملهم كأنهم من أبنائه، خصوصاً أنهم ـ بغالبيتهم ـ من المساكين في الأرض، تماماً مثل «مضيفيهم» في جنوب لبنان، وقد بات بينهم مصاهرات وأنساب، فبتنا من خؤولة أبنائهم، وصاروا لنا أصهاراً.
والصهر سند الظهر،
لكن حماية الأرض والسماء وما بينهما تحتاج إلى أكثر من هذا بكثير!

Exit mobile version