طلال سلمان

عن ديموقراطية انتخابات لبنانيا وعند سائر عرب

تركنا بيروت، ليومين، غارقة في بحيرة جدل بدا مفتعلاً وسابقاً لأوانه حول مشروع جديد لقانون الانتخابات، معزز بمبتدع استثنائي تحت مسمى »مجلس الشيوخ«، وقد أنزلا فجأة وبغير سابق إنذار الى البازار السياسي المفتوح للمزايدين والمناقصين في عشقهم للديموقراطية الطائفية..
حين عدنا كان الانقسام قد تكامل تماما بين الطائفيين الديموقراطيين والديموقراطيين الطائفيين والطائفيين الخلّص، وإلى جهنم كل أنواع الديموقراطية، وصار الجدل فحيحاً مستقدماً من التراث الطري بعد للحرب الأهلية، تتخذ فيه الانتخابات صورة اعتداء طائفة أو طوائف مستقوية على أخرى مستضعفة.
توارى السياسيون خلف قلنسوات رجال الدين وعمائمهم، وقد دخلوا ميدان الصراع »الديموقراطي« بمواقعهم ذات الحصانة، فإذا المعركة بين ملائكة وشياطين، بين مؤمنين وكفرة، وكأن الانتخابات تدور خارج السياسة لتفرز أهل الجنة عن أهل النار، وبالاستطراد: الكيانيين السياديين الاستقلاليين الأحرار عن المرتبطين بالخارج (القريب) تحت شعار وحدة المسار والمصير..
طبيعي والحال هذه أن يتعامل المواطن العادي مع »الانتخابات« وكأنها مصدر للشرور والمخاطر أكثر مما هي فرصة لتأكيد تعلقه بالحرية ووسيلة لممارسة حقه الديموقراطي في اختيار ممثليه، وبالتالي في أن يكون له رأيه في السياسة وفي من يحكمه وإلى أين يقوده..
في البحرين أمضينا ساعات طويلة من النقاش حول الانتخابات مع قائلين بضرورة المشاركة باعتبارها الوسيلة المتاحة للتعديل والتطوير من داخل النظام والمانعة للفتنة ومخاطر الحرب الأهلية، وبين المعترضين بالمقاطعة الشاملة (لو أمكن) لانتخابات »لن تغيّر شيئاً، وإن كانت ستجمّل صورة النظام الذي أراد تجديد ذاته فصيّر الإمارة مملكة ليصير ملكاً، وأجرى استفتاءً شعبياً على ميثاق وطني سرعان ما عطله بدستور يعطي من الحريات أقل مما كان يعطيه الدستور القديم (الذي عطله والده) ويقيم الى جانب المجلس النيابي المنتخب مجلس شورى يعيّنه الملك يلغي أثر الانتخاب، إذ يشترك في التشريع وله حق »الفيتو« على ما لا يقبله هو أو من عيّنه..
عبر المناقشة التي اصطبغت بقليل أو كثير من الطائفية، ومرارات العائدين من التشريد الطويل في المنافي الباردة، أو الخارجين من السجن بعد محاكمات ظالمة، تبدت الانتخابات القريبة وكأنها مصدر للخوف على الجزيرة الصغيرة أكثر مما هي فرصة لكي يعبر شعبها عن إرادته في اختيار ممثليه.
تركنا الجزيرة ونحن ندعو لشعبها بالسلامة من خطر الديموقراطية الناقصة أو المنتقصة أو المطعون فيها سلفاً لأسباب تتصل بالطائفية أكثر من اتصالها بالحريات وحق التعبير عن الرأي!
.. وجاءتنا نتائج الانتخابات التشريعية في المغرب بدلالاتها الكثيفة وأبرزها تراجع »الأحزاب العلمانية« وتقدم »الإسلاميين« الى موقع صاحب حق النقض أو »الثلث المعطل« حسب البدعة اللبنانية، لتعطي لأعداء الديموقراطية حجة جديدة في صراعهم لإثبات أن الانتخابات هي أقصر الطرق الى الفتنة والحرب الأهلية.
… ومن أعوزه الدليل في انتخابات المغرب التفت إلى الانتخابات التشريعية في الجزائر ومقاطعة البربر لها، مما يهدد بلاد ثورة المليون شهيد (في مقاومة الاحتلال الفرنسي) ومئات آلاف الضحايا بين قتلى وجرحى ومشردين في الفتنة الضاربة أطنابها بين »المسلمين« و»الإسلاميين«، فزاد خوفه من أن تكون »الديموقراطية« ضحية جديدة، للمرة الألف، للفتنة والمستفيدين منها ومن وضع »الإسلام« في مواجهة حق المسلمين في اختيار ممثليهم والناطقين باسمهم على قاعدة اجتهادهم في خدمتهم وفي صيانة حقوقهم في وطنهم ومن داخل التزامهم بدينهم الحنيف، وليس على قاعدة الحفظ الببغاوي للنصوص وكلام السلف الصالح.
.. وبينما كنا تحت صدمة قرار السلطة في الأردن بإرجاء الانتخابات سنة أو بعض سنة، وكأنها مباراة في كرة القدم أو حفلة طرب لا مجال لها في زمن المخاطر والأحزان، جاءتنا البشائر من بغداد بتحديد موعد الحدث التاريخي الفريد لاستفتاء مجهول النتائج قد يهدد قيادة صدام حسين للعراق بأكثر مما تهدده الحرب الأميركية، وقد يهدد معها إدارة جورج بوش بإظهارها وكأنها تعطل اللعبة الديموقراطية في أرض الرافدين، في حين أن »أبا عدي« يرفض أن يرجئ موعد هذا الحدث الديموقراطي الفذ، لأي سبب كان، بما في ذلك الحرب الأميركية ضد شعبه المظلوم مرتين بل المحكوم بالظلم على امتداد تاريخه الطويل… وكل ذلك بسبب من صدق إيمانه بالديموقراطية والتزامه بما يقرره الشعب وحده!!
* * *
هكذا إذاً حالنا كعرب: انتخابات طبيعية تؤدي الى الفتنة تحت شعار الديموقراطية(؟)، أو دكتاتورية تضمن سلامة النظام، ومن ثم الكيان، بإرهاب الشعب (ناخبين وقاصرين) وتعزز شرعيتها بانتخابات معروفة نتائجها سلفا، وهي دكتاتورية عوّدتنا ان تكون ضعيفة ومتخاذلة أمام العدو بقدر ما تمارس جبروتها على مواطنيها العزّل والمرتبط معاشهم وأمنهم الذاتي باستكانتهم وتسليمهم بأن يقولوا »نعم« في كل استفتاء وفي كل انتخاب نيابي أو نقابي أو في جمعية تعاونية أو في رابطة عائلية وصولاً الى جمعيات مكافحة التدخين والحفاظ على البيئة وتحديد النسل!
وفي هذه اللحظة تتناهب آذان العرب طبول الحرب الأميركية على العراق، معزّزة بدوي حملة التدمير الإسرائيلي الشامل لفلسطين، وطناً وقضية وشعباً، وطبول الانتخابات النيابية والرئاسية، طارحة معادلة خاطئة وظالمة قوامها: حرية الوطن في مواجهة حرية المواطن،
فإصلاح السلطة في فلسطين مطلب إسرائيلي، وتحقيق ديموقراطيتها مطلب أميركي، وكأن شعب فلسطين إنما أعطى صوته للفساد المالي والإداري وللدكتاتورية والتفرّد. أو كأن إسرائيل شارون وإدارة جورج بوش أكثر حرصاً على حرية الفلسطينيين وعلى نزاهة الحكم وديموقراطيته من هذا الفلسطيني ذاته!
المفارقة أن الانتخابات، أي انتخابات في أي بلد عربي، قد تعصف بالعلاقات الداخلية بين المواطنين، وقد تعصف بأمن الشارع، وقد تهدد الكيان والنظام، ولكنها لن تبدل في واقع الحكم شيئا (لأنه حصّن نفسه جيدا ضد الديموقراطية وشرورها الكثيرة)، بل هي قد تشرّع المزيد من الأوضاع الخاطئة، وقد تزيد من نفور المواطن من فعل الانتخاب نفسه لأنه لن يعني له إلا أنه سيتعرض الى مزيد من المهانة بتسخير صوته لتبرير الغلط أو الظلم بالزور والتزوير.
بعض حكام العرب، يقرر »الانتخابات« ويصطنعها بديلاً من الانتخابات..
وبعضهم الآخر يريد »الانتخابات« ويديرها، عملياً، ضد الانتخابات.
وبسبب النقص أو التشوه في مفهوم الديموقراطية فإن المنافس سرعان ما يتحول الى خصم، بل إلى »عدو«، والخسارة ولو فعلية تغدو فعل تزوير.
وبسبب طغيان الحكم على الإرادة الشعبية تحولت المجالس الى منتديات للكلام ونواد اجتماعية وما يشبه جمعية الحبل بلا دنس، مع ان الدنس هنا هو الأساس!
الأخطر أن هذه المجالس (المنتخبة؟!) تحولت الى أداة للسلطة وليست رقيبا عليها، تشرّع لها ما يناسبها، وكثيرا ما يكون مسيئاً وضاراً بالناس الذين انتخبوها..
وفي أكثر من بلد عربي أقيم الى جانب المجلس المنتخب مجلس شورى أو شيوخ أو »حكماء« الخ معين… لكن الإكثار من المجالس لم يعزز الديموقراطية ولا هو أكد اعتمادها قاعدة حكم أو مسلك حياة، بل أكد انتفاءها تماماً!
وفي لبنان كما في بلاد عربية عديدة، تمّ اللجوء الى زيادة عدد النواب تحت شعار تعزيز الديموقراطية، لكن هذه الزيادة كلفت الناس المزيد من المال المهدور من دون أن توفر ديموقراطية حقيقية بتشريع أرقى أو بخدمات أفضل.
* * *
الديموقراطية شأن أخطر من أن يترك القرار فيه للسياسيين المحترفين.
وبالطبع فهي من الخطورة بحيث لا يمكن أن يقرر فيها الحاكم، كائناً من كان، لا سيما بين من وصلوا الى سدة السلطة عن غير طريق الديموقراطية والانتخاب الحر.
ثم انها أجلّ وأسمى من أن تكون سلاحاً في يد الطائفيين، ومهما ارتفعت جعجعة مستثمري النظام الطائفي والمنتفعين به ومنه في المطالبة بإلغاء الطائفية، فإن هذا التهريج سينكشف أمام أي حركة سياسية شعبية تتعامل مع المواطنين كشعب لا كرعايا (للحكام أو لملوك الطوائف).
وأخطر ما تواجهه قضية الديموقراطية في بلادنا أن الحكام يريدون فرض دكتاتوريتهم باسمها علينا، في حين أن إسرائيل تقررها لنا مشفوعة بتدمير وطن وقتل شعب بينما الولايات المتحدة تريد فرضها علينا بالمدافع والصواريخ والقذائف المبيدة للإنسان والقومية والأديان ليكون لها ما فوق الأرض وما تحتها بلا اعتراض سواء باسم الله أو باسم الوطن أو باسم حقوق الإنسان!

Exit mobile version