طلال سلمان

عن حكاية احتجاز سعد الحريري: لبنان في حالة طوارئ في غابة الاسئلة!

انشغل العرب عموماً، وليس اللبنانيون وحدهم، في الأيام القليلة الماضية، بحدث غير مسبوق في غرابته وخروجه على المألوف: استدعاء السيد سعد الدين الحريري، رئيس حكومة لبنان، إلى المملكة العربية السعودية، بغير تمهيد او سبب معلن، في يوم عطلة (يوم الجمعة قبل الماضي)، ثم ظهوره، فجأة ومن غير أي تمهيد على شاشة محطة “العربية” التي تملكها السعودية (كما هو معروف) وإلقاء بيان مكتوب يعلن فيه استقالته، ضمن حملة قاسية على ايران و”حزب الله” في لبنان، الذي يشارك في حكومته بوزيرين..

لم يكن في بيروت، او في أية عاصمة عربية او حتى غربية او شرقية، من يمكنه أن يفسر هذا الحدث المفاجئ، بل الصاعق، والذي لم تسبقه أية مؤشرات او دلالات على وجود أزمة حادة (اقله إلى هذا الحد) بين لبنان وإيران، او بين رئيس حكومة لبنان و”حزب الله” الذي يشارك في حكومته بوزيرين، على جاري العادة منذ العام 2006 بلا انقطاع.

وقع الخبر على اللبنانيين، خاصة، رئيسا وحكومة ومجلساً نيابياً، فضلاً عن الرأي العام، وقوع الصاعقة: اذ لم يكن في الاجواء السياسية، سواء داخل لبنان، او على مستوى المنطقة، ما يشير إلى “حرب” سعودية ـ ايرانية، او لبنانية ـ ايرانية.. بل أن الرئيس الحريري كان، قبل يوم واحد، قد استقبل مستشار المرشد الايراني خامنئي، السيد ولايتي في سراي الحكومة، مع وفد يصحبه، وكانت الابتسامات تجلل اللقاء.

كذلك فان العلاقات بين القوى السياسية في لبنان، بمن فيها “تيار المستقبل” الذي يتزعمه الحريري، كانت طبيعية جداً، وقد احتفل الجميع معاً بمرور سنة على تولي الجنرال عون مهام رئاسة الجمهورية، وكانت الحكومة تمارس مهماتها كالمعتاد، والمجلس النيابي قد فرغ للتو من مناقشة موازنة العام الجديد، والجيش وقوى الامن تحتفل بالقضاء على التنظيمات الارهابية (“داعش” و”النصرة”) على الحد الجبلي الفاصل بين سوريا ولبنان (بلدات عرسال والقاع ورأس بعلبك)..

بالمقابل كانت السعودية قد عينت سفيراً جديداً للملكة في بيروت هو وليد اليعقوبي، وفي الرياض تم قبول اوراق اعتماد السفير اللبناني الجديد فيها وهو فوزي كباره.

صُعق اللبنانيون وهم يشاهدون رئيس حكومتهم، سعد الحريري، يطل عليهم عبر شاشة “العربية” السعودية، ليبلغهم من الرياض استقالته من رئاسة الحكومة، مطلقاً حملة عنيفة ضد إيران و”حزب الله”، مستعيداً الاتهامات الاميركية والخليجية لهذا الحزب الذي يشهد له اللبنانيون بتاريخه المقاوم في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان منذ العام 1982 وحتى اجلائه في العام 2000 ثم انتصاره على الحرب الاسرائيلية في تموز ـ آب (يوليو ـ اغسطس) 2006.

ثم فوجئ اللبنانيون بالرياض تستدعي اشقاء سعد الحريري الموجودين في الخارج، وتستبقيهم في المملكة، بينما وزير الدولة السعودي ثامر السبهان يستمر في شن حملة يومية ضد لبنان وحكمه بشخص “حزب الله”، ويرفع اللهجة إلى التهديد بحصاره… ثم بصدور اوامر من عواصم بعض دول الخليج (الامارات والكويت والبحرين، اضافة إلى السعودية) تطلب فيها من رعاياها مغادرة لبنان على الفور… وقد فعلوا!

وكان على الدولة أن تتحرك: فعقد رئيس الجمهورية سلسلة لا تنتهي من اللقاءات مع مختلف القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ثم السفراء وسائر ممثلي الدول العربية والاجنبية في لبنان، لشرح الموقف الغريب بل المستهجن والخارج على المألوف الصادر عن المملكة.

عاش اللبنانيون اياماً من الذهول: كيف يمكن لدولة، كائنة من كانت، أن “تحجز” حرية رئيس حكومة لدولة أخرى، حتى لو كان يحمل جنسيتها اضافة إلى هويته اللبنانية الاصلية، وكيف تمنع عودته إلى بلاده، ولو من اجل أن يستقيل من منصبه السامي.. وكيف لا تتكرم على الدولة اللبنانية بشرح هذا الموقف المفاجئ وغير المألوف والخارج على القواعد والاصول في العلاقات الدبلوماسية ـ فضلاً عن العلاقة الاخوية التي تربط بين البلدين الشقيقين؟!

لم يجد اقرب الناس إلى الرئيس سعد الحريري، بمن في ذلك أهله في لبنان، فضلاً عن تياره السياسي (المستقبل) وصولاً إلى حلفائه، كما خصومه السياسيين، أي تفسير مقنع.. ولم تتكرم عليهم المملكة بأي بيان يفسر او يشرح تصرفها النافر والخارج على المألوف!

ولقد وصل أمر الغموض والقلق على مصير رئيس الحكومة اللبنانية المحتجز في الرياض إلى حد أن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي زار ابو ظبي لافتتاح متحف اللوفر الذي اشادته فيها، بالتعاون مع متحف اللوفر ذي الموقع الممتاز، دولياً، تقصد أن يعرج على الرياض في زيارة غير مقررة للاطمئنان على سلامة “الرئيس المحتجز” فيها من دون تفسير: سعد الدين رفيق الحريري.

هذا سرد تفصيلي للوقائع الغريبة التي رافقت “احتجاز” رئيس حكومة عربية في عاصمة دولة عربية شقيقة، و”الزامه” بإعلان استقالته من موقعه الرسمي السامي، في بلد آخر، عبر تلفزيون يخصها، ومنعه من العودة لكي يتصرف ـ اذا ما كان راغباً فعلاً في الاستقالة ـ حسب الاصول المعتمدة: أي من قلب مكتبه الرئاسي في بيروت، او حتى من بيته.. والسلام.

أما عن الجو المحيط بلبنان فالمؤشرات تدل على أن الحرب في سوريا وعليها تقترب من نهاياتها، فقوات التنظيم الارهابي “داعش” تُهزم وتندحر حتى تكاد تنتهي في العراق وكذلك في سوريا.. وثمة مؤشرات جدية على عهد جديد في كل من الدولتين الشقيقتين عبر الانتصارات على العصابات الارهابية التي كانت تحتل مساحات شاسعة فيهما، وقد هددت ـ ذات يوم ـ كلا من العاصمتين التاريخيتين بغداد (عاصمة العباسيين) ودمشق (عاصمة الامويين) في ايام العز العربي.

بالمقابل فان الموقف العربي من “حزب الله” قد هدأ وبات التعامل معه على انه حزب لبناني ـ شريك في الحكومة ويقوم بدور جيد في مكافحة التنظيمات الارهابية، ويقاتل مع الجيش السوري عصابات “داعش” ومشتقاته في مختلف انحاء سوريا بعد أن لعب دوراً ممتازاً في طردها من لبنان..

بل أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد نوه مؤخراً بالدور الايجابي الذي يلعبه “حزب الله” في لبنان، في حديث لإحدى محطات التلفزة الدولية.

ومعروف أن “حزب الله: يقاتل مع الجيش السوري للقضاء على المنظمات الارهابية بعنوان “داعش”، على مختلف الجبهات المشتعلة لاستئصالها، وآخرها في دير الزور والبوكمال المحاذيتين للعراق.

معروف أيضاً أن العرب، في مختلف اقطارهم، يفتقدون دور مصر، الذي لا غنى عنه ولا بديل منه، كصمام امان، في المنطقة العربية جميعاً، ويحزنهم غيابها عن دورها القومي الذي كان يؤكد اهمية العرب على الخريطة الكونية ويحمي الدور العربي المفتقد حالياً.

في أي حال، فان العرب اجمالاً قادة ورعايا، قد اعتبروا “الانقلاب” الذي يستكمله ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، باعتقال ابناء أعمامه شأنا داخلياً سعودياً، يتصل بأمن المملكة ومستقبل الحكم فيها.. ولم تصدر عن اية عاصمة عربية، بما في ذلك بيروت، اية انتقادات او مواقف متعاطفة مع الامراء وسائر المسؤولين الذين أقيلوا من مناصبهم السامية، وبينهم وليان للعهد (الامير مقرن بن عبد العزيز ثم الامير محمد بن نايف).

كذلك فان اية دولة عربية لم تسع (أقله علناً) للتدخل في موضوع “احتجاز” الرئيس سعد الحريري في الرياض، ومنعه من مغادرتها (الا في زيارة بضع ساعات إلى ابو ظبي حيث التقى ولي العهد في دولة الامارات العربية المتحدة… وقيل انها لتصفية امور مالية وليست لها اية علاقة بموضوع احتجازه في الرياض، الذي استدعى أن يُدخل الرئيس الفرنسي ماكرون تعديلاً على زيارته لابي ظبي للمشاركة في الاحتفال بافتتاح متحف اللوفر فيها، فيزور السعودية لكي يسمع تبريراً او توضيحاً لمسألة “احتجاز” الرئيس سعد الحريري في الرياض).

ينشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية

Exit mobile version